27‏/10‏/2008

أكتب لتعش


ان تكتب لتعيش. أن تعبر عن ذاتك لتكون. هذا تحد كبير. كيف نميّز بين مسؤوليتنا عن واقعنا وبين مسؤولية المستعمر؟ كيف نتواصل مع انفسنا ونحن لا نزال نعيش غربة، انفصام عن الواقع، حالة من فصل الذات عن المحيط. وكأننا معلقون بين سبع سماوات وسبع أراضين.

مستعمر متآمر وجلاد للذات
ينشغل الخطاب الثقافي اليوم إما بالحديث عن المستعمر، الامبرالي المستعلي، وكم هو ظالم وكم سرق وحرق من الحضارة الاسلامية والعربية، ولا يزال يفعل هذا حتى كتابة هذه السطور، وكم نحن ضحايا لهذه السياسات والمؤامرات التي تحاك في ظلمة ليل من اجل المس بنا ونحن بطبيعة الحال لا حول لنا ولا قوة الا اكتشاف هذه المؤامرات وفضحها وكشفها والولولة عليها. مثل بروتوكولات صهيون المزعومة وكيف خطط اليهود للاستيلاء على فلسطين. وما هي هذه البروتوكولات الا توثيق افكار. ومن المعروف انه اذا لم توثق الافكار وتكتب فانها لا تتطور ولا تتحول الى سلوك وفعل. وليست البروتوكولات مؤامرة بقدر ما هي طرح افكار نجحت لانها وجدت القوة السياسية التي تحميها من الغرب.
وما اريد قوله فعلا ان ثقافة المؤامرات واننا ضحايا المؤامرات لم تكن الا سببا في هزيمتنا. فمن يقول كانت مؤامرة ارتكبت ضدي وانا لا اعلم، معناه انه يخلي نفسه من المسؤولية على واقعه. فالكل يعمل إما ضده أو معه وكأنه لا علاقة له بواقعه. وهذا شر بلية.
وبدل ان نقول تآمر علينا الغرب وتكالبت علينا الامم لنقف ونسأل أنفسنا: اين هي مسؤوليتنا على واقعنا؟ أين كنا عندما كانت هناك أحلاف بين الأمم؟ بماذا انشغلنا؟ كيف قضينا وقتنا.. وبعدها كيف قضي علينا؟

وطبعا لا ننسى جلد الذات، وفينا من هم محترفون في جلد الذات والحديث عن الفشل المتراكم الذي هو بسبب طبيعتنا الشرقية وتراثنا المتخلف والى آخره من النقد الذي يجر نقدا ويجر شعورا بالانهزامية. بدون ان يطرح هذا النقد حلولا عملية للخروج من المأزق. وجلد الذات لا يحتاج الى كثير من البراهين.. فالوضع سيئ.. والسؤال الذي يطرح: وبعدين؟
نسمع ونقرأ للكثيرين من المحللين وهم فعلا رائعون في التحليل والتشريح للواقع وهذا من منظور: مع او ضد. أبيض أو اسود. وبدون التفاصيل. ما يهمهم الاطار العام. سقطت امريكا بسبب الربا وبدون حاجة للتفاصيل. التفاصيل غير مهمة المهم سقوط امريكا وهو ما ننتظره من زمان وضرورة العودة الى النهج الاسلامي. ويعرض النهج الاسلامي بصورة عامة وبدون تفاصيل وبدون خطط عملية وبدون الحديث عن مسؤولية الفرد والاسرة والجماعة من اجل الوصول الى هذا النهج، وماذا يجب ان نعمل يوميا من اجله. وكانه مفهوم ضمنا. و

رومانسية ولكن؟
وهناك خطاب جديد نسبيا افرغته الفضائيات الاسلامية حيث الحديث الرومانسي عن الماضي المجيد والسلف الصالح الذين تحولوا الى اساطير بدلا من ان يكونوا قدوة ملموسة. وهذا الخطاب اشعر الكثيرين بالاحباط، فمن اليوم يستطيع قيام الليل حتى تتورم قدماه؟ ومن يستطيع ان يحتمل ألم قطع رجله وهو يصلي فلا يشعر بها من كثرة خشوعه؟ ومن من الاطفال يستطيع ان يحفظ القران وان يؤم بالناس وقد تجاوز سبع سنين بقليل؟ واي شاب في السابعة عشر من عمره يستطيع ان يسود امة وان يقود جيوشا جبارة؟
ونحن نستطيع ان نصل الى هذه المراحل واعلى منها اذا كانت هناك تربية اسلامية منهجية منذ اجيال. تربية تهيئ جيلا بعد جيل للنهوض. ولكن هذه تربية اجيال ويجب ان تكون تدريجية حتى نصل.
ولذلك كم يساعدنا تقديم صورة السلف على انها اسطورية؟ سيقولون ليست اسطورية انما هي واقعية. صحيح. ولكنها تخرج بدون سياق حيث لا تعرض تلك الصور المشرقة في سياقها التاريخي والثقافي وكيف واجهت من خلال سلوكها واقعها. وهذا بالضبط ما نحتاج اليه في التربية. السياق والواقع وكيف بصورة انسانية، وليس باعجوبة، كان السلوك الاسلامي هو طريق المواجهة.

كيف نتحول؟
انا نفسي احيانا اقع في هذه المطبات التي اعرضها. اقول يجب ان يكون بناء وعي. ولكن كيف؟ لا زلت ابحث ليس فقط عن الوعي وحاجتنا الى الوعي بل ايضا عن الطرق العملية لتحويل هذا الوعي الى سلوك.
وعندي بعض الامثلة على نجاعة وجود الوعي وامكانية تحويله الى سلوك. لي صديقة، طالبة جامعية في سنتها الثالثة اسمها حنين. تدرس الخدمة الاجتماعية وفي نفس الوقت مسؤةلة عن مجموعة فتيات لتحفيظهن القران الكريم في قريتها. حنين تريد ان تطور ادواتها في توجيه المجموعات من اجل دعم الفتيات وتعزيز ثقتهن بكتاب الله. توجيه المجموعات يعتمد بشكل اساسي على الحديث عن الواقع المعاش. وهنا يكون الربط بين الواقع وحفظ القران في مجموعة تفاعل.
يتحدثون عن حلقات الذكر ومجالس العلم في التاريخ الاسلامي وكانها قصة. ولكن هذا التعلم في مجموعة المبني على التفاعل، التفكر والنقاش، وليس فقط على التلقي والحفظ هو الذي عزز الاسلام في نفوس طلاب العلم. واذكر عن باحثة غربية، نسيت اسمها، اجرت بحثا عن اساليب التربية والتعليم المعاصر ووجدت ان حلقات دراسة القران في المساجد هي فضل طريقة للتعليم مقارنة مع الصفوف. وعزت ذلك الى طريقة الجلوس الدائرية والى التفاعل بين المعلم والمتلقي والعلاقة الانسانية التي تبنى بينهما.

اما رويدة فهي تعمل في ملجأ للاطفال والمراهقين الذين يعانون من ضائقة بسبب تفسخ اسرهم. رويدة تعمل جاهدة من اجل تحويل هذا الملجأ إلى بيت دافئ يضم الفتيات المراهقات اللواتي يتعرضن لظروف صعبة بسبب انحلال الاب في المخدرات والكحول او العنف داخل عائلاتهن. ولكن رويدة تشعر ان ذلك لا يكفي، يجب ان يكون هناك مضمونا لهذا الملجأ، ولا افضل هنا من المضمون الإسلامي الذي يمنح الامل برحمة الله. ولكن كيف؟ اتفقنا اولا على ان تشعر رويدة بالمسؤولية تجاه الفتيات في ضائقة، وهي تشعر بذلك فعلا وانهن امانة لديها. وثانيا القيام بالصلاة جماعة. واشعار الفتيات بانهن يدرن في فلك الله. فان اردن النجاة تمسكن به. واعطاءهن الفرصة للتعبير عنهن وعما يجول في خاطرهن وتحديد بعض الاهداف التي يمكن ان تحقق.
في القاعة المجاورة لرويدة، كانت هناك قاعة الاولاد وهم ايضا في ضائقة. وكان يكفي ان يعرض عليهم كليب لطفل في الرابعة يحفظ السور القصار حتى سارع الاولاد الى الاهتمام. وبعد لحظات سالنا احدهم: كيف اسلمتم؟ وكان يقصد المرشدات اللواتي يصلين احيانا في الملجأ.
نحن هنا نتحدث عن فئة من الاولاد والبنات وهم عرضة للانقلات في اي لحظة وكيف ان فطرتهم قادتهم الى الاسلام. ولكنهم فعلا بحاجة الى توجيه.

بناء الوعي.. الدخول الى التفاصيل
وبعد هذا كله.. كيف يرتبط الخطاب الثقافي العام بالتربية والسلوك؟ الخطاب يشكل الاطار العام وكلما سمح هذا الاطار لافراده بالحديث، ليس فقط شفويا، بل بالكتابة والتعبير من خلال وسائل الفن المختلفة، كلما بني وعي اكثر قدرة على الارتباط بواقعه، ليس فقط لدى الفرد المبدع بل لدى محيطه. وهذا الوعي كلما كان مفصلا اكثر وقريبا من الاعماق، كلما كان الاسهل تحويله الى سلوك.

بسم الله الرحمن الرحيم: (( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) صدق الله العظيم.