31‏/01‏/2009

مطر.. مطر


اعرفه من صوته.. وقع خطواته تفتح في الروح مسامات كانت على وشك ان تغلق معها باب الحياة. اعرفه من صوته عندما يهطل لا ليحيي الارض بعد موتها فقط، بل ليحيينا جميعا.
كان هذا صوت المطر يطرق نافذتي قبل دقائق. سقط ثم ارتاح قليلا. وانا انظر الى السماء واخاف الا يسقط المطر. استغفر الله واستبشر بوجود الغيم يتراص في السماء.
نحن والمطر
هل استجاب الله لدعوى الداعين؟ البارحة (الجمعة) صلينا صلاة الاستسقاء في المسجد الاقصى، رفعنا ايدينا مستغفرين طالبين سقيا رحمة لا سقيا عذاب. رفعنا ايدينا في اقرب نقطة الى السماء ندعو الله الا يتركنا في شرك الظالمين.
كانت هذه المرة الاولى التي استشعر فيها حاجتي الى المطر. المطر الذي قلّ انزوله هذه السنة، فيا ترى كم هي المرات التي وقفت وفكرت فيها بحاجتي إليه؟


والجواب هو قليلا جدا. فهل انتمي الى جيل لا يعترف باهمية المطر؟ هل وصلت الى درجة لا ابالي فيها بنزول هذه الرحمة الى الارض؟ لا اعرف من اين يأتي الجواب بالتحديد، ولكن وعي المطر لم يكن هاما في داخلي في السنوات الاخيرة. فالحياة في المدينة حيث تقل الاشجار والخضرة، والتعود على شرب المياه المعدنية، واهمال الطبيعة وعدم تأمل جمالها او تذكرها هي قيم دخلت مجتمعنا، المجتمع الذي تحول خلال سنوات ما بعد النكبة والنكسة الى مجتمع عمالي، يعتمد على اعمال البناء ورصف الشوارع والوظائف المكتبية، وابتعد شيئا فشيئا عن الارض والزرع.
اما جيل الارض من الاباء والامهات والاجداد والجدات فهو يعرف الارض اكثر من جيل اليوم ويشعر بعطشها الشديد، جيل يتواصل مع الحيوانات الصغيرة والكبيرة ويفهم حاجتها الى الماء والغذاء، انه ليس جيل الانترنت الذي لا يعرف معنى سيل الماء بل سيل الكلمات والافكار.

صلاة الاستستقاء اعادت الى وعيي الحاجة الى الماء، الماء الذي كان امرا مفهوما ضمنا ما دمت استطيع ان اشتري المياه المعدنية. وربما لو لم اكن قادرة على شراءها لشعرت فعلا بالعطش الشديد ولبحثت عن المياه التي تختبئ في سحابات المطر.
ذكريات
توقف المطر عن الهطول، وكنت اريد ان اسمع وقع سقوطه، ارهفت السمع، وكأننه كان يعاقبني على تجاهلي اياه سنوات طويلة. تذكرت ايام الطفولة، كيف كنت اتعلق برأس شجرة التين واصرخ باعلى صوتي: العاصفة!! وكانت الريح تهب لتحرك الشجرة العالية يمنة ويسرة وانا اتعلق بها وكاني في سفينة في عرض البحر، كانت الامطار تغرق وجهي، والغريب في الامر اني كنت اشعر بدفء رائع.
استرجع تلك اللحظات البريئة، واتمنى ان تعود، وان اقفز لاتعلق باقرب شجرة تصادفني.. ولكن هيهات.. ايام الطفولة تترك فينا الاحساس الرائع ولكننا لا نستطيع استرجاعها.. لانها ببساطة ذهبت ولن تعود.
ولكن المطر يعود كل سنة، وهذه السنة اشعر بانه لم يأت كما كان يفعل في كل سنة. افتقده الى ابعد الحدود، كم اريد الآن ان امشي تحت زخاته الغزيرة بدون مظلة اتدثر في معطفي، لاستشعر التوحد مع مكونات الطبيعة الحيّة. وفي هذه الايام، من الصعب عليّ ان اتوحد مع ريح هذه السنة الباردة غير المبالية.
رباه اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين!






25‏/01‏/2009

الجريمة والعقاب (الحلقة الاولى)


عندما قررت شادن ان تضع حدا لحياتها، لم تفكر الا في حفرة معتمة تحت الارض، شادن المرأة التي قادت نساءا كثيرات الى حتفهن، لم تفكر ابدا في العقاب الالهي، بل فكرت في خلع قناع البراءة والذل واستبادله بقناع السيطرة والقوة.

شادن لم تسأل نفسها اي سؤال ولم تحاول ان تتوب، وهي ترى نفسها بلا شيء في السجن. كل ما فعلته هذه المرأة هو ان تكسّر مصباح الضوء بضربة من حزامها، وان تجمع الزجاج المكسور، وبدلا من ان تجرح به وريدها، قامت بابتلاع الزجاج وطحنه، وسمعت حشرجتها وصوت موتها وكانها غنمة تذبح. كان الصوت يشبه الاختناق ف اعماق بحر او صوت اصطدام الشهوة في الفراغ.
كانت هذه نهاية احدى بطلات المسلسل السوري "وحوش وسبايا" والذي عرض في رمضان 2009. الوحوش والسبايا الذين يعرضهم هذا العمل الدرامي يثيرون الكثير من الاسئلة حول طبيعة الخير والشر، الضحية والجلاد، والمتغيرات في العالمين العربي والاسلامي ودخول مصطلحات وانماط تفكير جديدة الى العقل العربي. هذه الانماط التي اعتبرها ثورية في عالم يملؤه الحقد مع قدرة مثيرة للتساؤل حول ابتكار الجريمة وتنفيذها.

السؤال الاول وليس الاخير
والسؤال الذي اطرحه اليوم بخصوص هذا المسلسل وغيره من المسلسلات والبرامج العربية التي تعرض ليل نهار على ملايين من المشاهدين العرب من كل الاجيال هو: هل هؤلاء الابطال وهذه الحبكة الدرامية تعكس الواقع العربي الموجود ام تعكس الابطال المرغوب بهم مستقبلا؟ ومن هم هؤلاء الابطال؟ وكيف تغير البطل العربي والى اين يذهب؟ والاهم من ذلك: ماذا يخدم وجود هذه الافكار؟ ومن؟
وكلما ولّد السؤال الواحد عشرات الاسئلة كلما ساهم ذلك في دفعه\ها الى التمعن اكثر في المجتمع.

كيف نعبر لنعود؟
قررت بعد فترة كنت فيها مشغولة في غزة، ولا ازال، ان احاول ان افهم اكثر الوعي العربي وهل يتغير والى اين؟ حيث لا يمكن فصل الحدث السياسي عن الاجتماعي وعن الوعي الذي تنتجه وسائل الاعلام ليس فقط سياسيا بل ايضا نفسيا واجتماعيا. حاولت ان ابحث عن حالة شيقة استطيع متابعتها والغوص فيها، وبطريق الصدفة فقط عثرت على هذا المسلسل في غوغل فيديو، ورغم اني لست من هواة المسلسلات ولا يوجد لدي جهاز تلفزيون، الا ان شيئا في عنوان هذا المسلسل جذبني واردت ان اشاهد ولو مقاطع منه. وكانت المفاجاة الكبيرة: امامي مسلسل من 29 حلقة يبني الشخصيات والادوار بطريقة فنية، تصوير جميل ومعبّر، والاهم من ذلك المضمون غير الواضح على الرغم من وضوحه. باختصار قلما يجد المرء نفسه امام تحد ابداعي من هذا النوع.
ولست في هذا السياق احاول ان امتدح المسلسل، بل اريد القول ان هذا المسلسل مبرمج من اجل ان يجذب وان يسلب المشاهد قدرته النقدية. وهذا بالذات ما اريده، اريد ان اعرف متى يغيّب المشاهد؟ وما هي اجندة هذا المسلسل؟


يتبع..

21‏/01‏/2009

هل انتهت الحرب فعلا؟

احياء عند ربهم يرزقون.. صدق الله العظيم

الحرب على غزة لا تزال تكشف الكثير عن نقاط القوة والضعف في العالمين العربي والاسلامي والغرب. بينما تلملم المدينة جراحها، وتدفن شهداءها وبينما يستمر التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين في هذه الحرب غير المتكافئة عسكريا ولا اعلاميا، نتوفق قليلا لننظر الى الماضي غير البعيد ونعيد النظر في سيرورة هذه المعركة التي لا مناص من كونها ستقود الى معركة اخرى.

في هذه المعركة، واخترت تسميتها بهذا الاسم لانها واقعة في حرب، فالحرب هي سلسلة من المعارك، وان كان كل من الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي يسارع الى الاعلان عن النصر فيها حسب مقاييسه وتقديراته.


الاعلام نقطة قوة
لننظر الى احدى اهم نقاط القوة لدى الطرف الاسرائيلي الا وهو الاعلام المضلل والتعتيم الاعلامي الذي لا يزال يرافق مرحلة ما بعد المرحلة. والذي سابق الصواريخ التي تسقط على غزة وبنى القصة الاسرائيلية والتي روّجت في الداخل والخارج من اجل كسب الشرعية للحرب. ومن الاساليب التي رافقت ذلك ايضا كان منع دخول الاعلاميين الاجانب وايضا قنص الاعلاميين الفلسطينيين في محاولة للتعتيم.

وفي المقابل كان ايضا الاعلام العربي على شقيه، المجنّد لحكامه فحاول ان يستر عورات الحكام وهناك الاعلام الذي اتخذ من الكلمة والصورة تعبيرا عن المقاومة للعنف الاسرائيلي، وراى ان يتماشى مع ارادة الشعوب بدلا من ارادة الحكام.

قناة مثل الجزيرة مثلا تماشت مع الراي العام العربي والاسلامي وعكسته من خلال متابعتها اليومية والمستمرة للحرب. وربما يقولون ان هذه القناة غير حيادية، وفي هذا الاطار يمكن الرد على ان الاعلام لم يكن ابدا حياديا، ولكن المطلوب منه ان يكون مهنيا في نقل الصورة الى المستهلك، فالحكم هو على الحقيقة الصحافية وليس على موضوعية الناقل.

ومن جهتها، اسرائيل لم تكن لا مهنية ولا موضوعية ولا حيادية في طرح الحرب على جمهورها، فقد نشرت ما يريده غالبية الجمهور في اسرائيل، وهم يريدون ان يروا الشعب الفلسطيني وعلى راسه حماس في حالة من الخوف والهذيان والتشرذم فكان لهم ما يريدون.

ليس جديدا القول بان المعركة الاعلامية لها تاثير قوي، يفوق السلاح على الجمهور. ولما كسبت اسرائيل اعلاميا في الغرب في نقل قصتها في الحرب، فشلت في الوقت ذاته في ان تمنع القصة الفلسطينية من الظهور عالميا من خلال المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني والرافضة للحرب على غزة.

ومن المهم جدا بناء منظومة اعلامية من اليوم تشمل عناوين وسائل الاعلام الغربية والعربية والجمعيات العربية والغربية من اجل ايصال القصة الفلسطينية. وبدأ فريق من المدونين التدوين غزة خلال الحرب وايصال رسائل غزة الى مختلف بقاع الارض، وتبقى هذه الجهود مباركة ولكنها تحتاج الى تخطيط وبناء.


نكبة جديدة ولكن القوة في البقاء
عندما رأيت صور الركام والجرحى والشهداء المتناثرة اشلاؤهم على طرقات مدن القطاع، وعندما رايت الاطفال والنساء يبكون وهم يهربون، عندما رايت الخيام وقد بدأت تنصب بجانب البيوت المهدمة، رأيت النكبة امامي. نكبة عام 1948 تعود وببشاعة. استطعت ان اتخيل ماذا جرى وقتها ولماذا هرب وهجر الفلسطينيون قراهم. لقد استعملت وقتها العصابات اليهودية القوة المبالغ فيها وارتكبت المجازر فلاذ الضعفاء بالفرار. ولكن الفرق هنا: ان اهل غزة لم يهربوا.. لقد واجهوا الموت والدمار ولم يتركوا اراضيهم وبيوتهم. وفي هذا رسالة من شقين: اولها: ان اسرائيل مستمرة في حربها لابادة الارادة الفلسطينية وثانيها ان الفلسطينيين قرروا انهم لن يتركوا ارضهم.


هل اصبح شاليت عربيا؟
كانوا مجموعة من طلاب الثانوية في احدى المدارس اليهودية يجتمعون في باص يسير بهم من القدس الى تل ابيب. كانوا يصرخون باعلى صوتهم ويضحكون. ومع ان الوقت لا يزال مبكرا الا ان شهيتهم للحديث كانت مفتوحة. بدأوا بالحديث عن معلماتهم اللواتي لا يلتزمن باللباس المحتشم اثناء التدريس، ثم انتقلوا للحديث عن امتحانات الثانوية التي تطرق ابوابهم من المفترض ان تؤجل بسبب الحرب. وصرخت احداهم قائلة: لم يبق لي الا ان ادرس في مادة المدنيات الا حقوق الانسان والتعددية في المجتمع الاسرائيلي. ساد صمت. وقال احدهم: ما الذي يحصل ولماذا اوقفوا اطلاق النار في غزة؟

ولماذا لا ينهون على حماس؟ وتسائل اخر: هل تظن انهم سيعيدون جلعاد شاليت في هذه الحالة؟ اجابت طالبة: انتم تعرفون انه لا يمكن اعادته في حالة حرب بل من خلال مفاوضات. هل تعرفون ربما يعطيه العرب حبوب فقدان الذاكرة وربما اصبح عربيا! اتعرفون لو عاد شاليت حيّا فان معنويات الجيش ستكون عالية جدا!

واجابها احدهم: اذن ليخرجوا كل العرب من السجون حتى يعود. فعارضه اخر: وهل تضن ذلك يفيد؟ حماس لا تعترف باسرائيل لان اسرائيل لا تعترف بهم كحركة سياسية. واضفت اخرى: بل لا تعترف بهم كبشر.

هذه اصداء من الشارع الاسرائيلي بعد ان انهى الجيش الاسرائيلي مهمته في القطاع. ربما لو كان الامر قبل اسبوع لكانوا يحتفلون بالغارات الجوية وضرب غزة. ولكنهم وبعد الانسحاب احادي الجانب والمؤقت من القطاع فانهم اكثر واقعيين.

مثل هذه الحوارات تبين ان الشارع الاسرائيلي يعرف حقيقة الصراع مع الفلسطينيين، ويعرف خطأ سياسة قادته ولكنه يسير مثل قطيع مستسلم لدعاية الحرب.

وماذا بعد هذه المعركة؟
لدينا الكثير لنعمله ميدانيا واعلاميا وقضائيا، كل في مجال تخصصه من اجل مساعدة ضحايا محرقة القرن ال 21.
اعجبني كثيرا اعلان وزير التعليم في غزة عن النية لاستئناف التعليم في القطاع يوم السبت القادم واضاف ان العلم راس مالنا. صدق، ولا يزال العلم هاما في معركتنا في البقاء.





14‏/01‏/2009

وجهك لا يزال جميلا يا غزة

بحر غزة الجميل.. هل ترون نور الحرية بعد ظلام الاحتلال كما أراه؟


أريد اليوم ان أكتب أكثر من أي يوم مضى. غادر النوم عيني بعد الفجر، تذكرت إخواني وأخواتي الذين لا ينامون وحرب شعواء تشن عليهم، تذكرتهم وقلت لنفسي: لا نامت عيني وعيونهم لم تعرف الراحة والأمان. فكرت في غزة، المدينة التي احتضنتي وانا فتاة في بداية اكتشافي لهويتي. اريد ان احدثكم عن غزة الجميلة. غزة بلد الناس الطيبين.

ذاكرتي تحمل زيارات ولقاءات مع اخوان وزملاء في بداية الانتفاضة الثانية، بين السنوات 2000 و 2004 من خلال عملي في مجال الصحافة المكتوبة. اكتب الان حتى لا انسى.

ذاكرتي الاولى
اذكر الزيارة الاولى، كان موقف لسيارات غزة في باب العامود، ركبت السيارة وخلال ساعة ونصف كنت عند حاجز ايرز، هناك كان ايضا افواج من الزائرين، انتظرنا ساعات حتى استطعنا الدخول الى المدينة. وكان في انتظارنا حاجز الامن الوطني الفلسطيني، وكانت ابتسامة على محيا رجل الامن الذي رحب بنا في المدينة.

دخلت بداية من بيت حانون وكنت اريد ابتلاع كل شيء بعيني اللتان بحثتا بلهفة عن بقايا هويتي التي تمزقت في عام 1948، وربما قبل ذلك ولكن الهوية تمزقت وكل لاجئ وساكن ومقيم ومشتت فلسطيني وعربي يحمل جزءا منها.

المدينة المزدحمة كانت تستوعب الجميع، اصوات الباعة، والابتسامات التي توزعت على الرغم من الفقر والاكتظاظ، كنت ارى في ناس هذه البلد نوعا من القناعة.

بحر غزة جميل يستعرض حكايا الجدات ويفتح الافق امام اطفال مخيم الشاطئ. انظر الى صورهم وبراءتهم واتسائل: كيف انتم الان؟ وادعو الله ان تبقى ابتسامتكم وتفاؤلكم على الرغم من الالم.
في غزة 2003، بينما الانتفاضة في اوجها، كنت اشعر بالامان على الرغم من ازيز الطائرات. ولا يزال ذلك الموقف الذي جمعنا يداعب ذكرياتي، زميلين من غزة واخرين من مصر، كنا نجلس في ذلك المساء في مجلس ابو الفدا، وكان القمر مكتملا في ليلة صيفية. كنا نتحدث عن فلسطين وكأننا نتحدث عن حورية. كانت فلسطين حاضرة في الوجدان، والكل ينصت الى تداعياتها في داخله.

طريقة غير عادية للاحتجاج
وفي الطريق الطويلة الى رفح، كان طابور السيارات الذي يقف على الحاجز العسكري بلا نهاية. الحر شديد، والعرق يتصبب. ولما لاحت رفح، توجهت الى احدى القرى وعبرت سهلا ممئلا باشجار البلح، لا زلت اذكره بحثا عن قصة غريبة من نوعها، كانت الخضرة تملأ المكان، اسرعت باتجاه احد البيوت لمقابلة رجل عرض ابناءه للبيع احتجاجا على وضعه الاقتصادي السيئ. وقال بعض الجيران ان زوجته تركته بسبب غرابة اطواره. وفي البيت لقيت ابناءه، كانت الابنة الكبرى مراهقة في الرابعة عشر من عمرها، تقوم بعمل الام في البيت، اجابتني على استحياء وعرضت اخاها المعروض للبيع. كانت هذه حادثة طريفة ومؤلمة في ذات الوقت. طرافتها في طريقة الاب غير العادية في التعبير عن الفقر ومؤلمة بسبب الفقر ذاته الذي عرّض خصوصية العائلة للانكشاف.
وبحثت عن الاب لأجده خارجا من جنازة. لم يكن مهيأ للحديث عن بيع طفله، وطلب مني العودة فيما بعد. لم أعد فيما بعد حيث اخذتني الاحداث السياسية الى مكان اخر، وان كنت لا ازال اريد ان اقابل هذه العائلة غير العادية مرة اخرى.

الشجعان والنار
انظر الى الصور التي جمعتها في بعض زياراتي الى غزة ولا استطيع ان امنع عيناي من البكاء. ولا اعرف ما الذي يحدث لهؤلاء الاشخاص الذين قابلتهم في حياتي وقدموا لي كل ما يستطيعونه حتى استطيع الكتابة عنهم. واتذكر زملائي الصحافيين وانا اراهم على شاشات التلفاز يتحدون القتل اليومي من اجل الحقيقة. اشعر بالفخر من اجلهم لانهم معرضون تماما للتصفية مثل القادة السياسين والعسكريين ولكنهم شجعان الى درجة ان الحقيقة تهمهم اكثر من حياتهم.


10‏/01‏/2009

هذا اوان الشد... فاشتدي

غزة تحرّك الضمير العربي والاسلامي. ربما كان بحاجة الى شلال مفتوح للدم كالذي يهدر في غزة لكي نصحو. ولكننا نصحو الآن وكل واحد منا يفكر في واجبه ومسؤولياته ليس فقط تجاه القضية الفلسطينية بل تجاه الاسلام.

أمة محاصرة
غزة لم تنم وسط هذه الهجمة الشرسة لاكثر من اسبوعين، وهي في الحصار منذ زمن بعيد، ليس ذلك منذ ثلاث سنوات (عند تسلم حركة حماس السلطة)، ولن اقول منذ بداية الانتفاضة (2000)، وليس ذلك عند شرعنة الحواجز العسكرية في 1994، وليس وقت الاحتلال في 1967، كما انه ليس عند حرب 1948، وذلك ليس منذ الاحتلال البريطاني في اوائل العشرينات من القرن العشرين، بل منذ سقوط الخلافة الاسلامية العثمانية والغاءها عام 1923 وغزة بل وكل العالم الاسلامي في حصار. حصار فكري وجغرافي يقتل فينا حس الانتماء الى الاسلام الواحد.

غزة اليوم ربما اكثر من اي شيئ اخر وحدتنا. وحدّنا الشعور بأننا مقصرون تجاهك يا غزة، وحّدنا النظر الى الموت عبر الشاشات، والبكاء والدعاء والتأثر بكل هذه البشاعة الحربية الاسرائيلية والدولية (في هذا المقام اضيف الحكام العرب الى الحكام الاجانب على اساس انهم من نفس الصنف ويخدمون نفس المصالح) ومن جهة اخرى الشجاعة الفلسطينية في غزة وفي الشعوب العربية والاجنبية التي قالت لا للظلم والقتل والحصار.

ملامح النصر المبين
لا اكتب الان خطاب النصر في غزة. ولكني على يقين بان كل ما فعلته اسرائيل ومن والاها من العرب والعجم يصب في صالح غزة وفلسطين. وهذا اولا واخرا بفضل الله تعالى وبفضل الصمود والمقاومة في الميدان.
اسرائيل ارادت ايقاع اكبر الخسائر في الارواح والممتلكات من اجل ان تقضي على الروح المعنوية للشعب الفلسطيني ومن اجل اثارة الفتنة بين الفلسطينيين وقادتهم في غزة، حتى يكيلوا الاتهامات لحماس ويسقطوها.

هذا الظن طبعا بالمقاييس الاسرائيلية، حيث ان المجتمع الاسرائيلي مهما بلغت ترسانته العسكرية فهو مجتمع خائف، لا يحب الموت ولا يريد التضحية، كل المناشدات الاسرائيلية لسحب القوات الاسرائيلية في لبنان مثلا كانت بسبب الخسائر في الجنود. ومن خلال متابعة الاعلام الاسرائيلي هذه الايام نجد ان اسرائيل تضلل بالحديث عن الخسائر في الارواح حتى لا تقلب الراي العام ضد الحرب. من ناحية الاسرائيليين طالما لا توجد خسائر في الارواح فلا ضير من قتل اكبر عدد من الفلسطينيين.
وفي الاسبوع الماضي في راديو الجيش الاسرائيلي دار نقاش بين ضابطة في الجيش وهي والمسؤولة عن الاتصال مع اهالي الجنود في حالة اصابتهم او قتلهم، وبين صحافية اسرائيلية نشرت مقابلات مع الاهالي اثناء تلقيهم خبر قتل ذويهم. حيث ادعت الضابطة العسكرية ان مثل هذه المقابلات تضعف الشعب الاسرائيلي. نعم تضعف معنوياته ولا داعي لها. واضافت: اتركوا هذه العائلات في حالها. فهم لا يعرفون ما يقولون وربما بعد ذلك سيندمون على تصريحاتهم. وحاولت الضابطة ان تقلل من اهمية نشر هذه المقابلات على اعتبار انها شأن عائلي لا دخل للجمهور فيها.
اما الصحافية فقد اعترضت على هذا النوع من الرقابة العسكرية وقالت ان الاهالي يريدون الحديث عن فقدان الجنود من خلال وسائل الاعلام.
وهذا المثال للتعبير عن التعتيم الذي تمارسه اسرائيل بخصوص خسائرها من اجل الاستمرار في الحرب. ونجد ان كثيرا من الاصوات التي تعارض الحرب لا منبر لها في الاعلام، حيث التركيز على الاصوات المؤيدة لها. وفوق ذلك فان الاعلاميين الاسرائيليين يحسدون اهل غزة على الصور المؤثرة التي تصدر من عندهم والتي تحرك الاعلام الغربي مقابل الصور غير المؤثرة التي تصدر من سديروت، عسقلان، بئر السبع وغيرها. ويتسانون حجم الدمار الذي يسببونه على ارض غزة.

درس في الصبر
كل القوة التي استعملتها وتستعملها اسرائبل في حربها ضد الفلسطينيين وليست فقط الحرب العسكرية والنفسية في الميدان بل ايضا التحالفات مع الاقزام العرب والعجم كانت بهدف كسر الصمود في غزة. ولكنها في المقابل ماذا حصدت؟ لقد حصدت العكس تماما. نعم هناك ضحايا وفقدان ومرارة لدى المدنيين في غزة، ولكن هذه التضحيات لم تذهب الى فراغ، بل ان تغييرا يصير في الوعي العربي والاسلامي الجماعي، بل حتى ايضا بالوعي العالمي.
كشفت الحرب اوهاما، عرّت قادة وشعوبا. لم يعد بالامكان التغاضي عن حركة حماس على الاقل شعبيا. وهذا الصمود الحي والشجاع لاهل غزة وسط الحطام والحاجة يكشف امام الشعوب جميعا ان الصمود مثال حي يمكن الاقتداء به، وان الجوع والخوف والبرد لا يمكن ان يسلبوا الارادة. كان هذا درسا في الصيام عن كل الملذات من اجل العقيدة.

سلاح مقابل عقيدة
اسرائيل تضرب غزة بكافة الاسلحة غير المشروعة والتي تستعمل بين الجيوش، اسلحة من فوسفور حارقة وتضرب باطنان من المتفجرات، تريد ان تقتل الحياة على ارض غزة، ولكنها لا تعرف انها تزرع في كل مسلم وعربي حياة جديدة. انها الحياة التي تولد بعد الموت.
وهذه كلمة الى كل الذين لا يزالون لا يعرفون ماذا يمكن ان يصنعوا تجاه ما يحدث في غزة. هذا ليس وقت القنوط بل وقت العمل، انها الفرصة الكبيرة من اجل شحن الهمم، والعلم، وتطوير وسائل التعامل مع الازمات، وتطوير الخطاب والتربية للاجيال الشابة.
لتذكروا فقط كيف وقفت اليابان والمانيا على قدميهما بعد ما لحق بهما من دمار وعار عشية الحرب العالمية الثانية. لتذكروا كيف صمد لبنان امام محاولات التجزئة الطائفية، وانظروا الى المجتمع الاسلامي في بريطانيا وامريكا كيف يحاولان الاستمرار بالدعوة الى الاسلام على الرغم من الهجمات ضد الاسلام بعد احداث ايلول 2001.
وهناك عشرات من امثلة الصمود الفردية والجماعية لامة تريد ان تعيش وان تساهم بل وان تقود الحضارة الانسانية.

مهما تفعل اسرائيل من قتل وتشريد، فانها ستخسر الحرب، لانها اولا واخرا قد خسرت مصداقية الحرب قبل ان تبداها. المصداقية التي يمتلكها الفلسطينيون الذين يدافعون عن انفسهم. اما المتخاذلون من امة العرب او اللاهون فهم ايضا لا بد خاسرون، لانهم خسروا اولا وقبل كل شيء انفسهم، ولن تنفعهم تحالفاتهم يوم الحساب.

08‏/01‏/2009

تظاهر ولا تتظاهر!


امام الموت والدمار لا تستطيع الكلمات العبور. ولكن رغم الالم تولد الارادة والتحدي لاننا بذلك نستطيع ان نعيش. تراودني في الفترة الاخيرة افكار حول الخروج من ازمتنا نحن الذين نغرق في الحياة. احاول ان افهم دوري اكثر في هذه الازمة، ولكنني وللاسف الشديد لم استطع حتى الان الوصول الى نتيجة.

اقتحام عش الدبابير
وبينما انا على هذه الحال من التلبط والتخبط والبلبلة والتبلبل... وكلها مرادفات لتفيد عدم تحديد وجهة النظر او البصر او حتى السمع، واذا بباب بيتي يكسّر. نعم يكسّر ويحطم زجاجه من قبل الشرطة الاسرائيلية. يعني بدون ان تدخل "الجماعة" الى البيت المستاجر في احد احياء القدس، قاموا بكسر الزجاج، وحتى دون ان يطرقوا الباب. انا وقتها لم اكن متواجدة في البيت، بل كانت اختي التي جاءت لتزورني وقد اصابتها الرعبة. بينما التقيت مع المقتحمين على عتبة البيت وتسائلت بغضب: من كسر الباب؟ لماذا؟ ومن سيعوضني على ذلك؟ وكانت الاجابة صرخات عالية من المسؤول عن الوحدة: ادخلي الى البيت. (احسن لك!). اختي التي كانت في الداخل صاحت بي ادخلي قبل ان يأخذوك، الا ترين انهم مثل ذئاب ضالة تبحث عن فريسة؟
سمعت مقولة اختي ودخلت بين الزجاج الذي تناثر على العتبة فاتحا طريقا لريح باردة لتدخل الى غرفتي. بينما تماسكت اختي نفسها وقالت انها كانت تنتظرني بفارغ الصبر، لان الحي الذي نسكن فيه شهد مواجهات بين "الملثمين" وبين الشرطة.
كان هذا كله في اليوم الثاني لمجزرة غزة. يعني قبل حوالي اسبوع. وبدا لنا ان شيئا مثل هذا لا يستحق الاشارة اليه امام البشاعة التي يتعرض لها القطاع برمته. ولكن الموضوع فتح مرة اخرى ونصحتني احدى الصديقات بتوثيق هذه الحادثة، وها انا اوثقها.

الخوف كان شديدا بين طالبات الجامعة العبرية، وهن صبايا من الجليل والمثلث لم يتعودن على مثل هذه التصرفات من قبل رجال الشرطة. ويعني هذا انهن لم يعشن الاحتلال بمعناه العسكري، ولا يعرفن الاقتحامات او الاعتقالات اليومية. فكانت هذه الحادثة تذكيرا لهن: لا تنسين انكن في القدس المحتلة. نعم القدس التي لا تضرب فيها الصواريخ ولكنها تعيش الاحتلال كل لحظة. وخاصة عندما يكون الواحد منا في محيط المسجد الاقصى المبارك ويرى كيف يفتش المصلون ويمنعون من الدخول للصلاة فيه.

تظاهر ولا تتظاهر
بينما تعبّر الجماهير العربية والاسلامية في الداخل والخارج عن غضبها تجاه ما يجري في غزة من مجازر. اجد نفسي غير قادرة على المشاركة ولو بنصف مظاهرة، او لنقل حتى ربع ربع مظاهرة. اراقب المتظاهرين من بعيد ولا استطيع ان اجد نفسي معهم.

هل هذا تخاذل؟ لا اريد ان اكون متخاذلة ولكن تربتي منذ المهد وهي عدم الدخول في السياسة لا من قريب ولا من بعيد. وبما ان المظاهرات هي شكل من اشكال السياسة فانا لا استطيع دخولها حرصا على تعاليم الاهل!
افكر في الموضوع واجد الامر اكثر جدية مما كنت اتوقع. ولا يتعلق فقط بالمشاركة بالمظاهرات او باسماع الصوت، بل بالشعور بالانتماء الى جماعة المتظاهرين.
قالت لي احداهن انها تشارك في مظاهرى حتى لا تشعر انها وحيدة، وحتى تشعر بالانتماء الى مجموعة ما. واضافت انها تشارك في نظاهرة حتى تصل رسالتها "حي ومباشر" الى المارة، وتضيف: يكفي ان يراني طفل وانا اعبّر عن موقفي فانه سيرسخ في ذاكرته، وهذه الوسيلة افضل بكثير من مشاهدة نفس الرسالة من خلال التلفاز.

لم اقرر بعد، الى اي جماعة انتمي، واين انا بالضبط. وسيبقى السؤال يراودني: الى اي جيل انتمي؟ ومن انا؟ وما هي افكاري؟ وربما اذا وصلت الى نتيجة ما فاني لن اكتفي بالمسير في مظاهرة بل سأقودها.


05‏/01‏/2009

كيف نصمد؟



سيأتي التاريخ يوما ويوثّق احداث غزة على انها نقطة تحول هامة في المنطقة بل وفي العالم أجمع. وليس هذا الكلام من قبيل المبالغة بل لان غزة تكشف الكثير مما كان خافيا فينا نحن وفي الطرف الاسرائيلي. واقصد بنحن ليس فقط الفلسطينيين بل ايضا العرب والمسلمين.

ربما الدم الذي هدر في غزة ايقظ الاعين والقلوب التي كانت تواسي نفسها بانه بدون موقف يمكن ان تتدبر امرها في هذا العالم المليئ بالمطاحن والحروب.
الحشد الكبير
وهناك اشارات عديدة تؤكد ان الكثيرين يبنون على نتائج الحرب والابادة في غزة كثيرا لمستقبلهم. وفي اسرائيل نجد انها حشدت طاقاتها ليس فقط العسكرية بل الاعلامية وحتى الدينية من اجل هذه الحرب. ومن يصدّق ان اذاعة الجيش الاسرائيلي تذيع قراءة لادعية الحروب في "تهيليم" وهو جزء من كتابات الحاخات في التوراة. والمتابع للاعلام العبري يجد كثيرا من الحديث عن المبررات التي تدافع عن كل ما يقوم به الجيش بلا ادنى نقد. حتى ان قصف المساجد في غزة وجد له مبررا حيث ان القادة يختبئون هناك، وليس هذا فقط بل فيه، حسب ادعاءاتهم، يتعلم المسلمون قتل اليهود من وراء كل حجر وشجر.

ومن الملفت للنظر الحرب التي يشنها حزب الحرب والذي يبتلع اغلبية الشارع الاسرائيلي على المعارضين لها من اليسار الاسرائيلي معتبرين اياهم اشباه مجانين لا يفقهون مما يقولون، بل انهم يعيشون في فقاعاتهم في المدن الغنية مثل تل ابيب ومحيطها.

اسرائيل تتحدث ايضا عن الحرب النفسية التي تشنها حماس في الاعلام العربي، محاولة استباق اي تصديق للاخبار التي تنشر هناك. وتتحدث اسرائيل عن الحرب النفسية وهي ايضا تشارك فيها، بل تحاول جاهدة ان تبث الشائعات بين الشعب الفلسطيني من اجل ان تبعده عن قيادته في غزة، فتركز مثلا على ان القادة يختبئون في الملاجئ بينما يعاني السكان من القصف. وفي اخر تقليعة اعلامية اسرائيلية ان قيادة المقامومة تختبئ تحت مشفى الشفاء في غزة، اي انه يجري تحضير لاحتمال قصف المشفى الوحيد في غزة. والهدف الاسرائيلي واضح من خلال هذا القصف وغيره وهو خلق نوع من الغضب في الشارع في غزة والضفة والعالم على قيادة المقاومة، وربما فتنة تؤدي الى ضعضعة التضامن المعجزة في هذه الرقعة المنكوبة على الارض.

تحول في الشعوب هو الحل
حان الوقت لنتوقف عن استنكار موقف القيادات العربية والاسلامية المهترئة. نعم انها لا تستطيع ان تغير من سياستها بل انها لا تبالي بهذا الاستنكار. برأيي هذا هدر للطاقة. بل ان الافضل هو اعادة النظر في التربية التي تعيشها الشعوب العربية والاسلامية. الشعوب التي تعودت على الكبت، حتى تعايشت معه. الشعوب التي رضعت الخوف والحرص على لقمة العيش. فالشعوب هي وحدها من تستطيع ان تغير وان تخلق القيادات البديلة.

كثيرون هم من ينتظرون "المهدي"، القائد المخلص، وكأنه سيأتي ليغير وحده كل شيء بدون ان يفعلوا هم بالمقابل اي شيء. لهم اقول: حتى المهدي بحاجة الى جماعة تقوم معه ان قام. ومن المنطقي ان يسبق وجود الجماعة القائد، فالقائد لن ينزل بالمظلة على الناس، بل انه يولد من رحم الجماعة المؤمنة.

ولانني شخصيا لا اتوقع تغييرا من "فوق" بل التغيير يأتي من "تحت" اي من الشعب وليس من رأس الهرم. فإني أتوقع ان يذهب جزء كبير من طاقتنا التي التربية التي تعد افرادا وجماعات تؤمن بقضيتها فعلا، ومستعدة للنضال من أجلها وليس فقط التباكي عليها وانتظار المخلص.

الحرب على غزة وفي غزة تكشف بالضبط مواقع العجز فينا. لا يكفي ان نتظاهر او ان نضع بعض الصدقات في صناديق الزكاة، بل علينا ان نؤمن بتغيير الوعي والسلوك.

وفي نقاش دار بيني وبين احداهن تسائلنا: ان فتحت الحدود مع فلسطين، هل كانت الشعوب ستنهمر اليها للدفاع عنها؟
صديقتي كانت متفائلة. اما انا فلم اكن كذلك. من يتربى على الخوف والتواكل، ويخاف من الجهاد، من الصعب جدا ان يدافع. كثيرة هي المصطلحات التي يجب ان نعيد صياغتها في حياتنا وان تتحول الى مضمون يومي واهمها معنى الجهاد، المسؤولية، التطوع والجماعة.


خيار الجاهلية.... هيه كده

غزة تكشف المستور في مصر، الاصوات اللامبالية داخل مصر وتعرّي بوضوح السياسة المصرية تجاه ما يجري للفلسطينيين.

المقال المرفق للصحافي المصري: ابراهيم عيسى

قرر: مصر كبيرة او هامشية!
إما أن نكون دولة كبيرة نتصرف بما يمليه علينا المكان والمكانة، الجغرافيا والتاريخ، وإما أن نصغر ونتعامل باعتبارنا دولة محدودة الإمكانات وفارغة الهمة وملهاش دعوة!!
سهلة قوي تقول لي ياسلام نعمل فيها دولة كبيرة ونفتح صدرنا وبعدين ناخد علي دماغنا، كفاية ما ضحت به مصر من أجل العرب وفلسطين، فالعرب يريدون الحرب حتي آخر جندي مصري!
طبعا أنت معذور في تكرار هذا الكلام الفارغ فأنت تسمعه منذ نعومة أظافرك ومن كثرة ما تردد أمامك تصورت أنه حقيقي والحاصل أنه:

1.مصر حاربت ضد إسرائيل منذ 1948وحتي 1973، أي خمسة وعشرون عامًا فقط بينما حالة اللاحرب ثم السلام مستمرة منذ 35عاما، فالمؤكد أننا لم نطلق رصاصة واحدة من أجل فلسطين أكثر من ثلث قرن، بل وعلي مدي أكثر من نصف عمر الكيان الإسرائيلي!!

2.إننا حاربنا إسرائيل ليس من أجل عيون فلسطين بل من أجل مصر، فإسرائيل تهديد لمصر وحرب عليها وعدوان ضدها، وإسرائيل هي التي اعتدت علي مصر في 1956واحتلت سيناء ثم انسحبت ثم اعتدت علي مصر في 1967 واحتلت سيناء ولم نكن قد أطلقنا رصاصة عليها، والحرب الوحيدة التي خاضتها مصر كطرف أول وبادئ هي التي انتصرت فيها وهي حرب أكتوبر وأرجو ألا ننسي أننا كأكبر جيش في الوطن العربي خسرنا نصف فلسطين في 48 وخسرنا نصفها الثاني في 67، يعني نحن الذين أضعنا فلسطين وليست فلسطين التي أضاعت نفسها، فلم يكن فيها جيش ولا دولة بل كانت محتلة من الإنجليز في 48، ثم مصر والأردن كانتا تسيطران علي غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية في 67.

3.أنه في أي بلد في الدنيا حدوده هي أمنه القومي وأي خطر علي الحدود هو بمثابة التهديد الجاثم علي حاضره ومستقبله والتي تملك مفاعلاً نوويًا علي حدودنا هي إسرائيل والتي تضع خريطتها حتي الآن علي حوائط الكنيست من النيل للفرات هي إسرائيل، ومن أعجب الأمور أننا نسالمها ونسلم عليها وخريطتها تضع مصر ضمن حدود إسرائيل الكبري بينما نغضب من اسم قاتل السادات علي شارع في طهران فنقطع علاقتنا بها منذ 28عامًا!!

ثم إن أي اضطراب أمني أو قلاقل عسكرية بالقرب من حدود مصر هي خطر ماثل وداهم عليها (الحرب في دارفور وجنوب السودان بل القرصنة في الصومال وما يحدث في غزة كلها شأن مصري صميم وليس موضوعًا خارجًا عن اهتمامنا أو لا يشغل بالنا

4.قطع لسان اللي عايز مصر تحارب، تحارب إيه وإزاي، مصر المريضة بفيروس سي والسرطان ومياه الشرب الملوثة والـ 18% بطالة، ومصر التي تقف في طوابير العيش من أجل رغيف مدعم والـ 22 في المائة من عائلاتها تصرف عليها نساء (المرأة المعيلة)، ومصر التي تقف في اليوم مائة وقفة احتجاجية من أجل كادر المعلمين وكادر الأطباء وفلوس التأمينات والمعاشات، وعلاوة الـ 30% ومنحة عيد العمال ومصر المدينة بالمليارات من الدولارات، ومصر التي لا تزرع قمحها ولا تملك في مخازنها قمحًا يكفيها ستة أشهر، ومصر التي يهاجر أبناؤها ويموتون غرقًا من أجل فرصة عمل في أوروبا، ومصر التي تبيع كليتها لتعيش، ومصر التي تسرق الكلي لتبيعها للأمراء العرب، ومصر التي يموت 63 ألف مواطن فيها سنويا في حوادث الطرق.

مصر ليست في حاجة لأن تحارب كي تضحي فهي تضحي بنفسها في حرب رغيف العيش والرزق تحت القيادة الحكيمة للرئيس مبارك ونجله وحزبه، ومن ثم لاحرب نريدها ولا نقدر عليها إلا إذا كتبها الله علينا والحمدلله لأن رحمة الله رحمتنا فلم نرفع سلاحًا في حرب علي مدي الـ35عامًا الماضية اللهم إلا دخولنا في حرب تحرير الكويت التي لا نعرف لماذا كانت هي الحرب الوحيدة التي لم يرفضها واستعد لها نظامنا المصري ودخلها متأهبا متأهلا ولا سمعنا يومها أي فسل من هؤلاء الذين يخرجون الآن من تحت الكراسي يحذرنا من أن العرب يريدون الحرب حتي آخر جندي مصري؟هل لأنها كانت حربًا تحت القيادة الأمريكية؟.. ربما لأنها كانت ضد جيش عربي؟.. ربما، فمن المستبعد أن يكون سبب حماس النظام لها هو السعي لتحرير الكويت، فتحرير فلسطين لا يشمل هذا الحماس المصري (حماس إنت بتقول حماس يا خاين ياعميل يا عدو إسرائيل!!).

فليخرج إذن من رؤوسنا حالا هذا الوسواس الخناس الذي يزن ويطن ويسعي إلي حشوه في أذهاننا الإخوة الذين يعلموننا أن الوطنية الجديدة هي مسالمة إسرائيل ومعاداة إيران وهي التواطؤ علي ضرب حزب الله في 2006 وعلي حماس في 2008 وعلي أي كيان أو جماعة أو دولة تعادي إسرائيل ولا تمسك بيد وزير خارجيتها مسكة ضامة وحانية!
لا أحد علي وجه الأرض يطالب مصر بأن تحارب إسرائيل لا نيابة عن الفلسطينيين ولا نيابة عن نفسها حتي، ونتحدي كائنا من كان أن يأتي بكلمة قالها عابر سبيل يطالب مصر بأن تحارب!

هل معني ذلك أننا لم ندافع عن فلسطين ونقاتل من أجل شعبها؟، طبعا دافعنا وحاربنا من أجلها ومن أجلنا قبلها ومن ثم فلا توجد أي أمارات للقنعرة والاستعلاء علي الشعب الفلسطيني، لأننا حاربنا لأجله فهذا محض افتراء لا يليق بالدول الكبيرة.

آه رجعنا للدول الكبيرة والكلام الكبير !!

يا سيدي ولا كبير ولا حاجة، نصغره، لو مضايقة حكومة مصر حكاية إننا دولة كبيرة، بلاها خالص، بس نقول ونعترف إننا دولة علي قدها وخلونا في حالنا ومحدش ييجي جنبنا ولا يطالبنا بأي حاجة، فقط لاداعي لخوتة دماغنا كل شويه بمصر الرائدة وزعيمة المنطقة والدولة الإقليمية الكبري وكل هذا اللغو، فلايمكن أن نقول عن أنفسنا هذه الأوصاف الجامدة وساعة الجد يبقي الجري نصف المجدعة وتقول لي:عليك واحد!!
طيب كيف نتصرف كدولة كبيرة.. نحارب إسرائيل كي ترتاح؟!

يا سيدي ماقلنا انس حكاية الحرب دي، لا أحد يطالب أي أحد بالحرب علي إسرائيل لكننا نخشي الحرب مع إسرائيل!! ولهذا يجب أن نتصرف مثل الدولة الكبيرة التي تحترم القانون الدولي والقيم الأخلاقية والمسئولية القومية!

مصر هكذا لا ينفع أن تقول عن نفسها أم الدنيا ثم تخلع من عيالها «أولاد الدنيا!»

فلكل الأمور تفاصيل يمكن مناقشتها لكن بعدما نتفق علي اختيارنا أن نكون دولة كبيرة أم دولة صغيرة منعزلة!

دعني أقول لك إننا دولة بالمعايير الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية صغيرة ولا نشكل شيئًا في الموازين الدولية من حيث قوتنا الاقتصادية والعلمية وإحنا علي قدنا جدا في كل هذه المجالات، لكننا بالتاريخ والبشر والدور القومي العروبي والمكانة الثقافية والفنية كبار فعلا، هذه هي المشكلة أننا كبار رغمًا عنا وحتي إن رفضنا، ومع ذلك فمن حق هذا الوطن أن يقف مع نفسه ويفكر ثم يفكر ويفكر ويقرر أننا لن نتصرف كالكبار لكن الشرط هنا يبقي شرطين:

الأول: أن نتوافق جميعًا علي هذا الموقف ومن ثم لابد أن يكون قرارًا ديمقراطيًا عبر تمثيل حقيقي للشعب، إنما شغل التلت ورقات بتاع تزوير الانتخابات والحكومة تتصرف فينا علي كيف كيفها وكأنها فعلاً حكومتنا وكأن مجلس الشعب مجلسنا فهذا محض عبث، فلا يحق للحُكم الذي يزور الانتخابات أن يدعي شرعية تمثيل الشعب واتخاذ قرارات نيابة عنه!

ثانيا: أن نكف كلنا عن الغناء والتغني بأننا دولة كبيرة!!

الدول الكبيرة المحترمة التي تتصرف وفق ما تمليه عليها إنسانيتها وأخلاقها ودينها بل والقانون الدولي لا تفعل واحدا علي مائة مما فعلته مصر ونظام حكمها مع الشعب الفلسطيني في غزة، حيث اعتبر مثلا ريتشارد فولك ـ المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة ـ الغارات الإسرائيلية علي قطاع غزة وما نتج عنها من خسائر بشرية مأساوية تمثل تحديًا للبلدان «المتواطئة» بصورة مباشرة أو غير مباشرة في انتهاكات الاحتلال للقانون الدولي. وقال فولك إن التواطؤ يشمل «تلك البلدان التي تقوم عن علم بتوفير المعدات العسكرية بما فيها الطائرات الحربية والصواريخ المستخدمة في هذه الهجمات غير القانونية، فضلا عن تلك البلدان التي دعمت وشاركت في الحصار المفروض علي غزة». هذا بيان من مسئول أمم متحدة لا من قيادة من حماس ولا من حزب الله ولا من الإخوان المسلمين ولا من إخوان الصفا.. هذا بيان من طرف دولي يصفنا هكذا بالتواطؤ!

نعم مصر الرسمية متواطئة مع إسرائيل وإلا قل لي:

1. من يحاصر غزة ويمنع فتح المعابر تحت حجج تافهة بالمعيار القانوني وليس بالمعيار السياسي، فالقانون الدولي يجبر ويلزم المصريين بفتح المعابر.

2. من يصدر الغاز والبترول لإسرائيل كي تزود طائراتها ودباباتها بالوقود الكافي لإطلاق الصواريخ والقذائف علي غزة ؟ (بالمناسبة استخدام هذا الوقود في تلك الهجمات يجبر مصر طبقًا للقانون الدولي علي وقف التصدير لإسرائيل ثم مصر التي تلوم أمريكا علي استخدام الطائرات المصنعة أمريكيا في ضرب غزة عليها أن تحاسب نفسها علي استخدام غازها وبترولها في ضرب غزة).

3. مَنْ الذي يقول إنه وسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، منْ الذي يزعم أنه محايد بين إسرائيل وفلسطين، أليست مصر الرسمية التي تساوي بين القاتل والقتيل، بين الجاني والضحية، بين المحتل الغاصب والواقع تحت الاحتلال، بين الحق والباطل؟!

4. من الذي يستقبل وزيرة خارجية تل أبيب متبسمًا ومُقبًلا وساكتًا صامتًا وهي تهدد بضرب وحرق غزة؟ من الذي يصف القادة الصهاينة بأنهم أصدقاؤه؟!!
مصر الرسمية في موقف مخز لو حاسبناها كدولة كبيرة، إنما لو أرادت أن تكون دولة صغيرة فالله يكون في عونها وربنا يتولاها برحمته!

أما الشعب المصري الذي يخرج بالآلاف للتضامن مع شعب غزة فهو يسجل براءته من دم شهداء غزة ومن تواطؤ حكومته الرسمية المعيب والمعيبة، لكن الحقيقة أننا نسمع من بعضنا الطيب كلامًا ليس طيبًا من باب إحنا مالنا أو يغور الفلسطينيون أو اللي يحتاجه البيت يحرم علي الجامع فالمؤكد أن:


غزة بيتنا وليس جامعًا

• لو تصرف الأنصار في يثرب تصرف بعض المتدينين الجدد في مصر من بتوع الاكتفاء بالحجاب دينا وباللحية إسلاما لانهارت دولة الإسلام بل الإسلام نفسه، فقد كان الأنصاري يقسم بيته وماله وأرضه مع المهاجر اللاجئ، ولم يقل له إن ما يحتاجه البيت يحرم علي الجامع أو أنا مالي، ولو ذهب المهاجرون اللاجئون إلي النجاشي ـ ملك الحبشة ـ يطلبون السند والمساندة فقال لهم ما يقول بعض المصريين عن شعب غزة في برامج تليفزيونات مصر المسائية لانتهت هجرة المسلمين للحبشة بمأساة.

• أعرف أن أخلاقيات كثير من المصريين قد تغيرت بل واختلت، فصرنا نراهم ينبذون اللاجئين السودانيين والعراقيين بل والكوايتة حين كانوا لاجئين في مصر فترة الغزو والاحتلال العراقي المشئوم، ولكل موقف حجته عند بعضنا، ولكل نقمة مبرر عند بعضنا الآخر،وكلها حجج ومبررات تكشف عن نفس مصرية بدأ ينخر فيها سوس الأنانية وغياب غوث اللاجئ ونصرة المظلوم وإعانة المحتاج، ولا عجب أن اختفت قيم نبيلة من التضامن والتكافل بين المصريين أنفسهم بينهم وبين بعض، وصارت العدوانية وبات العنف بيننا مشهدًا يوميًا متكررًا وكارثيًا، لكن الحمد لله أن كل هذا أورام حميدة لم تتحول إلي ورم خبيث يقتل ويدمر!

• لا يمكن للمساجد التي تمتلئ بالمصلين في تراويح رمضان ولا لملايين المحجبات ولا لمئات الألوف من الملتحين ولا للملايين ممن يصلون الظهر في الشغل وردهات المصالح الحكومية والخاصة أن ينسوا تعاليم دينهم في نصرة المسلم، وإلا لتأكد تخوفنا من أن هذا كله تدين شكلي لا يصل لجوهر الإيمان فالله ليس في حاجة إلي صلاتك وزكاتك وتمتماتك علي السبحة لو تخليت عن أخيك بل ولو تخليت عن إغاثة الكافر المشرك وليس المؤمن المسلم والمسيحي فقط، حيث يقول الله عز وجل في سورة التوبة آية 6 (وإن أحُدُ مِنَ الُمشِركِينَ استَجاَركَ فأجرهُ حتَّي يَسمَعَ كَلاَمَ الَّلهِ ثُمَّ أبلغهُ مأمَنهُ ذَلكَ بأنَّهْم قومُُ لا يَعلمُونَ ) هذا عن الكافر، فما بالك بالمسلم الجار الجنب الذي يعاني الحصار والجوع، ألا نكون مثل كفار الجاهلية حين توجعت قلوب كثير منهم من جراء حصار المشركين للنبي «صلي الله عليه وآله وسلم» وأبناء عشيرته وأهل بيته في شعب أبي طالب فكسر كفار مكة الحصار عن محمد وأهله، فإذا لم نكن مسلمين فلنكن مثل خيار الجاهلية علي الأقل!!