02‏/12‏/2008

عندما ماتت حكمت.. اصبح الكل مسرحية


أزقة متعرجة، ضيقة وحزينة توصلك الى بيت كفاح وعائلتها في مخيم قلنديا للاجئين. ويقبع هذا المخيم على بعد امتار من حاجز قلنديا العسكري. كما ويحاصره جدار الفصل العنصري ويفصله عن بقية القدس. وكأن مأساة العزل واللجوء لا تكتمل إلا بمأساة أكبر وهي الفقدان.

فقدت كفاح أمها...في الاسبوع الماضي واثناء مداهمة ليلية لجيش الاحتلال الاسرائيلي لبيت العائلة في الثانية والنصف ليلا. لم تمت الأم نتيجة لإطلاق الرصاص أو الضرب المبرح كما يمكن أن يحدث عادة، بل ماتت نتيجة لإصابتها بنوبة قلبية نتيجة للتعذيب النفسي الذي تعرضت له هي وبناتها من الجنود الاسرائيليين لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة. ماتت حكمت وهي في 46 من عمرها، لتترك وراءها عائلة يعلم الله متى ستندمل جراحها.
في بيت العائلة، تجمعت الأخوات والمعزيات من المخيم، كان صمت تكسره بعض الابتسامات الواهية. وبدات كفاح تحكي عن الليلة التي غيرت كل حياتها.

قالت كفاح
"داهمنا الجيش في الليل، فتحوا الباب وكأن معهم مفتاح، هكذا بلا كسر أو خلع مثل اللصوص، تفاجئنا بوجودهم في قلب اليبت، خرجت من غرفتي لأقول لهم: تمهلوا علينا قليلا، فلا رجل في البيت. قلت لهم: أبي يعمل حارسا، وأخوتي متزوجون كل في بيته. لم يكترثوا بي.
أخذوا أمي وأخذوا باستجوابها. كانت أمي خائفة على أولادها. مع ان اخوتي اعتقلوا سابقا، لي اخ اعتقل وهو في ال 15 من عمره. ولكن هذه المرة تختلف. مع كثرة الاسئلة والاجوبة والصراخ عليها، بدأت أمي تنهار، كنت اريد التخفيف عنها ولكن الجنود منعوني. كانوا يتغامزون عليها ويتحدثون باللغة العبرية التي لا نعرفها... طلبوا مني ان أرافقهم لبيت أخي القريب.. لم أخف.. فأنا متعودة على اساليبهم، ذهبت في الزقاق الذي أعرفه جيدا، كان وراءي جندي يتلفت يمنة ويسرة، كانوا خائفين، أنا أعرف طريقي ولكنهم لا يعرفون أين يذهبون.
طرقت الباب، وبهدوء ابلغت أخي أن الجيش عنا في الدار ويريدونه. ولا داعي لان يخاف. تبعنا الى المنزل وهناك أعتقل ووضع في دورية عسكرية وبدلا منه أدخل بعض الشباب المعتقلين الى البيت، في غرفة لا نرى من مكاننا من هم.
امي داهمها الخوف، وسألت الجندي اي من ابناءي تريدون الاعتقال؟ فصرخ فيها الجندي صرخت جعلت الدم يتجمد في عروقها. كانت أمي مرعوبة، وكنت أحاول التخفيف عنها. قال الجنود أنهم يريدون تفتيش المنزل، كانوا يعرفون العربية، يفهمونها متى يشاؤون ويتجاهلون استفساراتنا متى يشاؤون.
مرة اطفأوا الكهرباء وبدأوا يجهزون السلاح، وكانت السلاح يصدر اصواتا وكانهم مستعدون لعمل مذبحة في البيت. هذا غير الشتائم والالفاظ البذيئة حيث اني صرخت فيهم: هذه البذاءات لا تقولوها في بيتنا، نحن لا نسمح بهذا الكلام.

حينما يتحول الوجع الى سخرية مريرة
دخل جندي غرفة والديّ، وبدأت انقل لأمي المشهد وأنا أسخر من الوضع، قلت لها: أنظري يقلب الجندي فرشة السرير.. هل يريد النوم تحتها؟!! وعندما أخذ الجندي كيس الاوراق الخاصة بأمي وفيها صور شخصية وبعض الاوراق، قلت لأمي أنظري يريد اوراقك، ربما أرادوا اعتقالك يا حجة.. حضري حالك!!!
انتبه الجندي إلينا فأغلق الباب، فنظرت الى امي مبتسمة: ها هي الرؤية متعذرة، اغلقوا المشهد!!
عرفت انهم سيفتشون غرفتي أيضا، بادرت واخذت أغراضي الخاصة وقلت للجندي: عندما تكون في بيتك ويأتيك غريب فإنك ترفض إعطاءه أغراضك الخاصة. وهذه رزمة اوراقي الخاصة ولدينا بعض المال نريده معنا. فتح وقرأ أوراقي. كانت رسائل من خطيبي عاهد وهو في سجن النقب. قلب الاوراق، واعطاني الرزمة.

قالت كفاح: "عندما اغمي على أمي في فرشتي.. عرفت انها ماتت.. وما بعد ذلك اصبح مسرحية"
وبدأت حالة أمي بالتدهور، بعد حوالي الساعة من اقتحام الجنود للبيت. جف ريقها. قلت للجندي: امي مريضة، أريد استدعاء طبيب لها. قال لي: اسقيها ماء. وبقيت أمي تشرب الماء كانت تسير في البيت ومعها قنينة ماء تشربها. اجتمع عليها الضغط والسكري والمداهمة والخوف معا. كانت تبدو في حالة انهيار. وبعد محاولات لاقناعهم بضرورة استدعاء طبيب. استدعي جندي قيل انه طبيب، نظر الى امي المتعبة وقال بلا مبالاة: اسقوها ماء!!
وبعد أن اغمي على أمي وكانت في فرشتي، لم أعد استطيع، صرخت في وجه الجندي، اريد طبيبا لأمي، هناك طبيب في المخيم. وخرجت الى بيت الطبيب، لم اكن أمشي بل كان قلبي.

عندما اغمي على امي وهي ممدة في فراشي، عرفت ان امي قد ماتت، وكنت أحاول أن أفعل أي شيء، لابما يعيدها للحياة. قلبي كان يسبقي الى بيت الطبيب، وكانت أم الطبيب تتوضأ لصلاة الفجر. لم اتمالك نفسي بعد ان طرقت باب البيت مستنجدة بها وبابنها: الجيش عندنا في البيت وامي تعبانة. وبعد ماضرة في الاخلاق وطرق دق الابواب على الناس النايمين، طننت انها استمرت لساعات، اشارت الجارة لي ان بيت ابنها في الطابق العلوي. فطرقت بابه. وخرج لي وبعد سؤال وجواب وتحريات قلت له: تعال بسرعة امي تموت واخذنا لك الإذن من الجنود.
ومرت دقائق حسبتها ساعات طويلة، خرج فيها الطبيب وهو في بدلة رسمية وكأنه ذاهب الى مؤتمر طبي. سبقته الى البيت. وعلى عتبة البيت، كانت أمي ممدة، وكان الجندي "الطبيب" يجري لها تفسا اصطناعيا عبثا. ومأساة طبيبنا أنه فتح حقيبته ليتبين له أنه نسي عدة الاسعاف، فذهب الى بيته متثاقلا.
كنت اعرف في قرارة نفسي، ان أمي ميتة. وان كل ما يتبع موتها مسرحية. طلبنا سيارة الاسعاف، ولم تأت الا بشق الانفس. كانت أمي جثة في بيتنا. امي التي كانت تملئ البيت حنانا، وفيها طفولة بريئة تخفيها أمهات كثيرات. أبي هجر غرفتهما وقال: أصبحت الغرفة كبيرة عليّ.

امي اسمها حكمت
امي اسمها حكمت. في الليل اقول ماما ماما. أناديها، أشعر أنها معي الآن. أختي آية تصبرني وتقول ان لا داعي للحديث.
جنازتها كانت "بتجنن". حضرها مئات من المخيم وخارجه. عندما زرت قبرها الطري، كنت اتحدث معها ولحست ترابها، كان له طعم يجعله يؤكل.
لأمي جارة عزيزة عليها، كانت تقول وهي في دار العزاء: قومي أم السعيد لنذهب الى بيتنا. وأم السعيد كانت أمي المتوفاة ولكنها لم تنتبه الى أنها تتحدث مع أمراة غير موجودة.
ماتت أمي، واحتسبها عند الله شهيدة. صورتها في البوستر المعلق في الصالون جميلة جدا. كنت اتصور سابقا اني احقد على اسرائيل. ولكني اليوم اعرف معنى الحقد بالحقيقة. واتمنى لهم ان يفقدوا امهاتهم بهذه الطريقة، ولكن هل توجد لهم عواطف؟ هل توجد لهم امهات؟ لو كانوا يعرفون معنى الأم، لما قتلوا أمي بهذه الطريقة الباردة.
أريد ان تذهب قضيتي هذه الى محكمة اسرائيلية، لأمثل أمامهم المشهد حرفيا، ولكن هل سيفهمون؟

أمي ماتت. واعتقل اخي محمد في بيته في بيتونيا، يقولون ان ذلك بتهمة حيازته للسلاح. مع انه يعمل في شرطة رام الله وسلاحه مرخص. زوجته كانت في بداية حملها واجهضت بسبب الرعب الذي دب في عروقها عندما اخذوه من البيت. فما الداعي لان يكونوا عندنا اذا اخذوا من يريدون؟
وللعميل الذي سلّم المعلومات الخاطئة عن مكان تواجد أخي يجب أن يتحمل المسؤولية!!! عيب عليه ما فعل. انه على الاكيد ليس واحدا منا. لا احد يخون وطنه ويستحق ان يعيش.

ليست هناك تعليقات: