13‏/10‏/2008

قراءة في رواية عودة الى الأيام الأولى


المواجهة الحقيقية مع الذات
يا لها من مواجهة!! غريبة ومحيّرة. كيف يتواجه الماء مع الريح؟ الريح تستطيع أن تثير الماء فيتحول إلى امواج وأعاصير مائية هادرة. عند المواجهة تتولد الطاقة. لكن السؤال كيف نوجه هذه الطاقة؟ هل للعمل ام للخيال والوهم؟
طاقتي من المواجهة تتوجه نحو اغتراف جزء لا اعرفه من الواقع. او لنقل بعبارة بسيطة تتوجه طاقتي الى القراءة.

وجاءت رواية ابراهيم خضير، عن الرياض في بداية التسعينات من القرن الماضي. حتى تفتح أمامي أبواب الطفولة التي كانت غائبة عن حاضري. "عودة إلى الأيام الأولى" للكاتب خضير، هي عودة إلى أحداث حرب الخليج الثانية. عودة إلى "عاصفة الصحراء" كما أطلقت عليها قوات التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ومن عاونها من العرب والعجم. وكانت "أم المعارك" كما أطلق عليها الزعيم الراحل صدام حسين. ولكنها لم تكن أم معارك، بل كانت أم الهزائم. ولا اقصد الهزيمة العسكرية بل المعنوية وأم التلخبطات والتخبطات في العقليات العربية.

دراما ومواقف
هذه الرواية كانت ملقاه مثل غيرها من الروايات على مكتبي، لا أقربها ولا تقربني. كنت أريد إرجاعها إلى المكتبة البارحة، ولكني لسبب ما قلت أقراها، فإذا هي تأخذني معها إلى هنا وربما إلى أبعد.
وفق الخضير عندما اعتمد اسلوب التشويق في بداية الرواية من أجل ربط القارئ فلا يستطيع انفلاتا منها حتى ينهيها، على الرغم من ان الرواية تقع في 520 صفحة من الحجم المتوسط، إلا انها دراما حقيقية تكشف اعماق المجتمع السعودي وتناقضاته في تلك السنوات العجاف.

منصور، شاب في الثلاثينات من عمره، اخصائي نفسي تعلم في لندن. مطلق من عائلة فقيرة من جنوب الرياض، بلا حسب ولا نسب، شاب مع مبادئ، يريد أن يقترب من الدين أكثر. شاب تتهيأ له فرص من اجل ان يعاقر الخمر ويصادق النساء ولكنه لا يكتفي بالتأمل. يلوم نفسه على كثرة الحساسية والشكوك. يعود إلى الرياض ليعمل في مشفى للأمراض النفسية. وبعد بضعة شهور من عوده، يحتل العراق الكويت ويعلنها ولايته ال 19. فتبدأ الجيوش الامريكية ومن حالفها بالتدفق على السعودية والخليج. ويبدأ الامريكان ايضا بالتوافد على المشفى والسيطرة عليه شيئا فشيئا. اولها بالود والتذلل وبعدها بفرض الذات والاوامر للعاملين هناك.
لم تكشف الرواية لماذا اصر الامريكان على ان يشارك منصور في بحث مع اخصائية نفسية امريكية برتبة رائد عن جنوب الرياض. ويبدو ان البحث لم يكن هاما بحد ذاته، الا انه فتح امام منصور بابا الى طبقات مختلفة من المجتمع السعودي. يتربع على قمتها بن جعفر، ثري ذو سيادة، يعيش في مملكة ويستجلب كل خادم وخادمة من كل العالم من أجل شهواته. يشرب الخمر وترى في ناديه المنكر، إلا انه يحافظ على صلاة الجمعة ويخطب فيها. يقرّب منصور اليه لسبب لا نعرفه، ولا يعرفه منصور بحد ذاته. وفوق هذا يريد بن جعفر ان يكتب مذكراته في زمن الحرب، وهو يرى في نفسه بطلا، يستطيع ان يشتري كل شيئ وكل معلومة وكل انسان بماله وسلطته.
في الرياض ترى من يؤيد الامريكان ويعتبرهم المنقذ من العراق، احداهن قالت انها ترد ان تصبح امريكية. لانها تقدس قوتهم ومعرفة رجالهم في التعامل مع النساء.

وهناك من المطاوعة (رجال الدين) الذين ينتقدون دخول امريكا الى الخليج لانها لن تخرج منها وانها ستسيطر على الجميع. وهناك تناقضات بين رجال الدين انفسهم فمنهم من افتى بجواز القتال الى جانب امريكا وحلفائها.
وفي الرواية قبر رسمي للافكار القومية والوحدة العربية. عروبة فتاة جميلة في الثلاثينات من عمرها تسقط في الدعارة وادمان الكحول مثل ابيها اليساري القومي الذي لم يتخل عن عبد الناصر حتى وهو على فراش الموت.
تصور الرواية حالة التشتت والرعب الذي ساد الرياض عشة حرب الخليج ومنذ اجتياح الكويت في اغسطس 1990 حتى يناير 1991 عندما سقطت في ايدي امريكا وسط ترحيب عربي. وخلال هذه الفترة طرد اليمنيون الذي عاشوا في السعودية عقودا كاملة بحجة دعم دولتهم للعراق. ابو يمن، لقب يطلق على اليمنيين الذين عملوا في الحرف اليدوية البسيطة التي يانف منها السعوديون على الرغم من كون اليمنيين من اصول عربية عريقة.
الرياض مدينة كل شيء ولا شيء
الرياض مدينة تجمع كل التناقضات البشرية وقت الحرب، مدينة فيها الثراء ينمو ويترعرع على حساب الخوف والبؤس. وليس غريبا ان تجسد هذه المدينة حالة الامة في تلك الفترة، التي لا هم لسادتها الا جمع المال وحفظ الكرسي.
وما اشبه حال الامس باليوم، وكانها لم تمر سنوات حتى سقطت العراق كلها بأيدي امريكية، ومعها تناثرت السهام والسكاكين من اجل ان ينال كل حصته.

منصور كان متفرجا كل الوقت. قال ان الخليج يخاف ولذلك فهو يتمنى دمار العراق. وانه لا يريد للعراق ان يدمر. قال يجب ان نكون عمليين والا نستسلم لاوهام الماضي. ولكنه لم يعطي حلا واحدا. يقول في النهاية ان لا شيئ تغير. انها سلبية المتعلم في عالمنا العربي.
اي نهاية اخرى يمكن ان تكون لرواية تكتب في 2007؟ في وقت تحكم فيه القبضة الامريكية على العالم العربي والاسلامي. اختار الكاتب ان يعرض الوضع بلا افق واضح. واشعر بنوع من خيبة الامل. وهل يخفى على أحد منا الواقع. انما نحن بحاجة إلى حلول أو على الأقل لاقتراحات حلول.

عودة الى ايامي الاولى
كان الجو باردا، والريح تزأر في الخارج، صوت المطر يطن في أذني وأنا أدعو لسلامة العراق. كنت لا أزال في الحادية عشر من عمري، لا أعرف أي رياح تواجه رمال الصحراء هناك في الخليج. ولكن احساسي كان يقودني الى الخوف من مستقبل لا تبدو ملامحه واضحة. وفي الغرفة المجاورة كان صوت المذيع من تلفزيون اسرائيل باللغة العربية ينقل الأحداث كما يريد.
ماذا بقي لنا؟؟
نحتاج اليوم إلى بناء وعي جديد. تربية جديدة للنفوس والسلوكيات. لا اعتبر رواية الخضير محبطة بقدر ما هي قادرة على ان تكشف نفوسنا. ولا بد من هذه المكاشفة وان كانت صعبة من اجل التربية.






ليست هناك تعليقات: