19‏/07‏/2011

عجوز، خيل ناقة وأرض، في نفق الزمن!

لا أستطيع أن أصف حالة الإنبهار التي أصابتني وأنا أنظر إليه وهو يتكلم. كنت أحاول أن ألتقط كل كلمة يقولها. شعرت أن أمامي رجلا يخرج من التاريخ. له ذاكرة مرنة إلى حد يثير الإعجاب. ينتقل بين الأحداث والتواريخ، ويصلي على النبي بين كل فكرة وأخرى يقولها.



كنت في مدينة رهط البدوية في النقب في جنوب فلسطين، وكنت أقابل شيخا من عشيرة الجعافرة في التسعين من عمره. خفيف الظل، بجلابيته البيضاء ناصعة البياض والحطة البيضاء مع العقال الأسود. كانت بيده عصا يسير بها أو تسير به، وعلى وعينيه نظارة شفافة كبيرة الحجم. تحدث الرجل بالعامية البدوية، فهمت أغلب ما قال، إلا أني لم أتردد في الإستفسار عن أي مصطلح لا أفهمه.



كنا في الشّق وهو ليس من الشعر بل عبارة عن غرفة فيها سرير وبعض الكنبات، وفيه تجتمع العائلة ويتم استقبال الضيوف. زميلتي طالبة بدوية من النقب قالت لي: من غير المقبول هنا أن تدخل النساء الشّق، لكننا سنفعل ذلك بسبب البحث العلمي.


ضحكت وأنا أتذكر حالات كثيرة دخلت فيها الشق وكنت المرأة الوحيدة بين رجال، كانوا يقولون لي أو لأنفسهم: لا بأس فأنت أخت رجال!!




يستعرض الرجل، الذي رفض تصويره، مقتطفات من ذاكرته، وهي أيضا ذاكرة شعب هجر من أرضه. سرحت لوهلة وهو يتحدث عن الخيل والفروسية، شعرت بأني أخرج إلى تاريخ آخر، فروسية!!


ولم تكن الفروسية هي التي استوقفت خيالي بل أخلاق الفارس. هل أكون متشائمة أم واقعية إذا قلت أن المجتمع قد خلى من أخلاق الفارس؟

ويتحدث الرجل عن الإعتداء عليهم من قبل المرتزقة من الهجاناه، نعم في نفس الموقع الذي جلسنا فيه، كنت أسمع صوت إطلاق نار يخرج من الزمان والمكان ويرتمي بين ذراعيه وقدميه بينما كانت زوجته وبناته الثلاث يرتجفن من الخوف. قال العجوز: كيف يحارب صاحب العصا جنديا تدرب على السلاح؟


كانت هذه جملته التي لخصت حرب سنة 1948.



وماذا عن الأرض التي فقدت؟ كان أحد سماسرة الأراضي يعاون الكيان الصهيوني الذي أقيم على استلام الاراضي. ولم يرد العجوز أن يطيل الحديث هنا. ولكنه وبعد إلحاحي قال: "لقد عرفوا انه كاذب ونسب إلى نفسه ملكية أراض لم تكن له، ولكنهم كانوا بحاجة إلى من يسلمهم الأرض".



أما عن الحميت، فالخاسر فقط من لا يعرف الفائدة من شربه، وهو دهن الناقة الذي يذوّب ويشرب على الريق!

ليست هناك تعليقات: