28‏/02‏/2009

خواطر تحت المطر


كيف يكون الانسان عندما يكون على وشك اتخاذ قرارات مصيرية؟ وما هي القرارات؟ وما هو المصير؟ الريح تزمجر خارج البيت الصغير الدافئ في احد احياء القدس، الريح تصفر وتعبّر عن الحاجة الى القرار. ولكن اي قرار تطلبه هذه الريح؟ ولماذا الآن تستيقظ الأسئلة فجأة لتصارع الحياة اليومية فتخرجها عن مسارها؟
تسع سنوات عشتها في القدس الحبيبة على قلبي. السنوات تمر، والدراسة لا بد ان لن تكفي من أجل الاستمرار في المدينة. في مجتمعنا العربي والفلسطيني خاصة، نهتم كثيرا بالجغرافيا، حتى اصبحت الجغرافيا وسيلة تعبير عن الهوية. مكان السكن يؤثر كثيرا على هوية الحاضر وعلى شكل المستقبل. المكان يعكس الامكانيات والمخاطر، بينما يغوص الواحد منا، والقصد عني، في التساؤلات التي لا تنتهي.

اما البحث الاكاديمي الذي اعتبرته تحديا قبل عدة اشهر، وكتبت عنه وكانه وحش يقترب مني لافتراسي، تحول وفي لمح البصر الى أليف لا استطيع البعد عنه. وكيف لا وهو يساعدني على تأخير التفكير في نفسي.

من السهل جدا على الانسان ان يفلسف الامور وان يرسم لا نهاية من الدوائر والمستطيلات والاوهام، ولكن ما اصعب ان يرسم الواحد منا نفسه!
تسع وعشرون عاما مرت في حياتي ولا زلت اذكر التفاصيل الصغيرة جدا والتي تثيرني الى ابعد الحدود، تثير في انبهارا بالوجود، اشياء صغيرة تختزنها ذاكرتي مثل دفتر مذكرات لمراهقة صغيرة لا تعرف من الحياة الا اسمها.

سأبقى في الذكريات، فهي مساحة حماية، ولا اريد العودة الى الوراء، الوراء مثل هاوية يمكنها ان تبتلع، وفي هذا الموقف اذكر مثلا شعبيا قالته ام صاحبتي: "يا بنية لا تزعلي على طبخة ولا على غسلة!"، فعلا مثل يلخص المأساة النسوية في عالمنا العربي وبكلمات بسيطة غسلة وطبخة!!
اه... لو كان الامر في الطبيخ لحلت المشكلة ولو كانت المصيبة في الغسيل لغسلناها من الاول، ولكن الازمة في القلب، فأين السبيل؟










23‏/02‏/2009

وقفة بين الحياة والموت

أطارد افكاري علّي اصل احداها. المطر يتساقط والغيم يتكاثف في السماء. اشعر بسعادة لا توصف يغمرها حزن لا يوصف. اسير تحت المطر. اتبلل. اشعر بالطهارة تتدفق من كل جانب. كم نحن بحاجة الى هذه الرحمة الالهية. يحيي الله الارض ومن عليها بالماء، وهو قادر على بعثنا بعد الموت.

احاول ان استحضر معنى اسمين من اسماء الله الحسنى وهما المحيي والمميت، وانا استمع لطرقات المطر على زجاج النافذة. الحياة والموت نقيضان ولكنهما يكملان احدهما الاخر، مثل الليل والنهار، لا نعرف احدهما الا اذا عرفنا وعشنا الاخر. مثل النور والظلام. فهل يستطيع احد ان يصف الظلمة دون النور؟

نحن دائما بحاجة الى آخر في حياتنا. لا نستطيع بدونه. الآخر مثل مرآة تعكس الوجه الحقيقي. ولكن هل هناك حقيقة وسط الوهم المتراكم الذي نعيشه مثل غبار او طحلب؟


الحلم

الحياة والموت... وفي هذه اللحظة بالذات يغيب العقل ويحاول ان يتنفس معنى الاشياء، فهل حقا فقدت الحياة كل معانيها؟
قبل سنوات، وبينما انا في لحظة نوم لا اعرف الى اين تنتمي، جاءني هاجس، فكرت اني سأموت والتفت الساق بالساق.. شعرت بانفاسي تزيد في تسارعها، كنت اعتقد اني سأراه، سيأتيني وانا غير جاهزة لهذا اللقاء غير العادي، حاولت الهروب، قلت لنفسي: آه.. لو اعيش بضعة ايام، لكنت اصلحت من نفسي الشيء الكثير. وفتحت عينيّ... كانت ولادتي من جديد.

عندما اذكر الموت في هذه الايام، لا استطيع ان امنع نفسي من ان اتذكر غزة بكل ما فيها من بشر وحيوان وشجر وحجر. كيف استطعت لأيام ان انسى اهلي في تلك المدينة التي تصارع الدمار وآلة الحرب؟ اين دعاءي لاهلها؟ اين انا منها؟
كنت اشعر بالخيانة العميقة والذنب العظيم. كيف ننسى مآسينا بهذه السرعة؟ تساءلت بصوت عال. فقالت لي فاطمة: لا تنسي غزة من الدعاء. كانت وصيتها وكنت أنا في رام الله.



الواقع
- انتم يا من تدّعون القدسية! انتم يا من تسمون انفسكم بشعب الله المختار.. الا تستحون؟؟

قالها احمد وهو يعيش في المنفى الذي اختاره في كندا حتى يستطيع ان يربي اطفاله بعيدا عن شبح الحرب.

واصبحت كندا، مدفنا له ولعائلته في شتاءها القارص والذي يستمر لمدة ستة اشهر. واصبح اهله في غزة خبرا يتابعه على شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد. اهله اصبحوا اصواتا مضطربة في هاتف.

- انتم يا من ترون انفسكم مقدسين.. اف لكم وما تصنعون.

يتعب احمد من الصراخ ويشعر انه غير قادر على فعل شيء.

- ممنوع ان تيأس يا احمد، لديك عائلة وهم بحاجة لك.



الحياة مرة اخرى

موت وحياة مرة اخرى. جيل يغادر العالم بمفاهيمه وخيباته ليحل مكانه جيل جديد. يمكننا ان نحلم بالتغيير وان نربي الجيل الجديد على قيم لم نربى عليها. اعرف ان هذه مهمة صعبة. ولكن الحياة بحاجة الى مطر، ومطرنا اليوم عبارة عن قيم وصياغة جديدة للهوية تكفل للجيل الجديد ان يبدأ مهمة التغيير. ولا ننس ابدا ان هويتنا يجب ان تشمل تعاملا مع الاخر بين ظهرانينا ومع الاخر البعيد جدا عنا.








14‏/02‏/2009

ميلاد

في التوبة الى الله ميلاد جديد.. ميلاد لا يعرفه الا من يعيشه يوما بيوم


كان الوقت صباح الجمعة. نظرت الى نفسي في المرأة ووعدت نفسي بيوم مختلف عن بقية الأيام. أريده يوما لا شبيه له، اريد يوما اشعر فيه بولادتي من جديد. اقول "الولادة من جديد" واتذكر فتاة في ريعان شبابها واسمها ليلى (اسم مستعار)، تريد ليلى ان تبدأ حياتها من جديد، وأنا مثلها، وكأني اصبت بالعدوى اريد ان أحيا من جديد.


اقفز أمام المرآة مثل طفلة وجدت ضالتها. اقفز لبضع دقائق، ثم تغيب عيناي في ذكريات بعيدة، واعود لأصحو وقد عاد لي مزاجي المتعكر منذ مساء البارحة.
لسنوات أشعر بالكبت وانا ارى نفسي تتقدم في العمر. في مجتمع يريد للمرأة ان تبقى صغيرة ودلوعة! مجتمع من رجال لا يريدون للمرأة ان تكبر حرصا على مشاعرهم في السيطرة. هل هذا ادعاء نسوي يدعو الى غضب البعض؟ لا ادري ربما يدعو ذلك بعض الرجال الى الشعور بانهم مهددون جراء وجود نساء يعرفن ما يردن في هذه الحياة وما بعدها.


قابلتها، اسمها لطيفة وهي فعلا كذلك. من قرية قضاء جنين، مشينا معا في طرق قرية مثالية في جمال الطبيعة، تحيط بنا اشجار اللوز والزيتون. كانت تقفز مثل غزال في حضن بيته. بلغت لطيفة الاربعين ولم تتزوج. تحدثنا عن العنوسة، الشبح الرهيب الذي يقيم في صدر كل فتاة تقترب من كل جيل يتعدى العشرين والثلاثين والاربعين.
سألتها عن الاعشاب التي تحيط بنا، وذكرت لي اسماءها، للأسف أحاول الآن ان اتذكر اسماءها، ولكني اعجز عن تذكرها، واشعر بأني معلقة بين سماء وارض ليسا لي.

عندما تتحول الحكاية الى كابوس
اشعر بالحكايا تخنقني وكأنها لم تعد لي. معلقة بين سماء وارض. بين كلمات تقف مثل حاجز وهمي بيني وبيني. احاول ان استجمع عقلي وان ابني نظرية وجودي على الوقت. اتذكر سورة العصر:
بسم الله الرحمن الرحيم، والعصر، ان الانسان لفي خسر، الا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتـ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، صدق الله العظيم.
العصر يعني الدهر والوقت. هو المادة الخام التي تتكون منها حياتنا، الوقت الذي نقضيه إما بالطاعة، او بالمعصية، او بالهروب من الطاعة أو بالهروب من المعصية، او الوقوع والنهوض من جديد.

الوقت لن يعود الى الوراء في الحياة الدنيا. ولكنه يعود بتفاصيله في الحياة الآخرة، حينما تعرض الصحف التي كتبت لكل بشر وعدت عليه حركاته وسكناته.

مرآة وقمر
احاول ان اجعل من عمري مرآة لاقف امامها حتى اواجهه. ولكنها لا تعكس الا وجها مشوشا لاعماق تعيش حالة من الاضطراب الآني.
يقولون انني اعيش فترة انتقالية.
نعم انتقل من حياة الى اخرى، واحاول ان اولد من جديد. هل اقول مثل زهرة؟ اخاف ان اذبل. هل اقول مثل طائر؟ اخاف ان اهاجر فلا اجد عشا يحويني. ام اقول مثل امرأة. نعم اني امرأة لا تجيد التعريف بذاتها.








مهاجرة مثل سنونو


رام الله الأمس لم تكن رام الله التي اعرفها. رام الله اصبحت مدينة تسكنها القسمة على اثنين او اكثر. رام الله فقدت رونقها واصبحت مدينة المال، المال الذي يجعل من السيطرة شيئا لا بد منه ولو دعا ذلك الى الغاء الآخر، ولا اقصد الآخر البعيد بل الآخر القريب، الاخ وابن العم.

شوارع رام الله في الليل تصبح مسرحا للخوف والرغبات التي لا حد لها في المعاصي. تفاجئني هذه المدينة مرة بعد أخرى.

بينما نتناثر... يتقاربون
وبعيدا جدا، الى الشمال اكثر، الى قرى نابلس المتناثرة بين السهول والهضاب، انظر الى جمال الطبيعة الربيعي، واشجار اللوز توحي بالبراءة والبياض، ولكنها على غير عادتها عندما انظر اليها، توحي لي بلا مبالاة. البيوت المتناثرة التي اعتبرتها دوما انسجاما مع الطبيعة الفلسطينية الساحرة، بدت لي فجأة انعكاسا لتناثر الواقع الفلسطيني وانقسام قيادته وشعبه.

بلعت ريقي وانا افكر بهذا الامر العجيب، ونظرت الى المستوطنات اليهودية الجاثمة على الارض، كنت اعتبرها فجة وغير قابلة للانسجام مع الطبيعة، وكان هذا في الماضي، اما الان انظر اليها وارى ما لم أره سابقا، اراها متحصنة متوحدة، وارى فيها نتائج انتخابات اسرائيلية على الابواب يفوز فيها اليمين الاسرائيلي المتطرف معلنا للجمع من العرب والعجم عدم نيته عن اخفاء انيابه، كما فعلها من يدعوّن السلام من الشارع الاسرائيلي.


تقول لي يهوديت وهي من حزب ميرتس صباح اليوم الثاني من اعلان نتائج الانتخابات لعام 2009 وفوز احزاب اليمين بزعامة ليبرمان، نيتنياهو وليفني والاحزاب اليهودية المتدينة مثل شاس، تقول انها متفاجئة من ان اعضاء حزبها والذين يدعّون اليسارية وانتقاد الحرب على غزة، هم انفسهم صوّتوا لليفني، مع انها قادت الحرب على غزة.

لماذا؟
تجيب: لانها تريد توقيع سلام مع الفلسطينيين، ولانها ليست عنصرية ولانها إمراة. كما ان اليساريين في اسرائيل خافوا من تصاعد اليمين الفاشي بزعامة ليبرمان فصوتوا لها على اعتبار انها من حزب وسط.
قلت لها، وفي القلب مرارة: ولكن هل تعتقدين ان الفلسطينيين يريدون "سلامكم" بعدما فعلتموه في غزة؟ انتم لا بد تضحكون على انفسكم. على كل حال اليسار الاسرائيلي المقبور اراد ان يثبت ولاءه للدولة التي يعيش بها، ليس اكثر ولا اقل.
وتقول يهوديت: نحن مثل قطيع، هاجسنا الاول هو الدفاع عن انفسنا ولا نبالي بغيرنا.
واهدي هذه المقولة الى الذين كانت لديهم اوهام في ايجاد شريك اسرائيلي للمرحلة السابقة والقادمة!!

بين فريقين
الاسرائيليون توحدوا، جمعوا الى حضيرتهم القطيع الشارد ممكن كانوا يسمون انفسهم باليساريين او من كانوا ينتقدون السياسة الاسرائيلية. وكان ذلك من خلال حملات اعلامية وانتخابية وتهميش لليسار اليهودي، اعتبروهم ضالين ومورست عليهم ضغوط اجتماعية، افهموا بعضهم البعض انه لا يوجد خيار آخر على ارض الميعاد.

وماذا فعل الفلسطينيون بالمقابل؟

انقسموا مثل خلايا سرطانية، واكلوا ما تبقى من جسم الوطن الجريح والمريض، لم يراعوا آلام الولادة العسيرة للتحرر، غرسوا سكاكين القطيعة والخوف.
قلت لطفل من يعبد، في الصف الثالث من عمره: لماذا لا تصلي؟ تعال نصلي معا.
نظر اليّ كالمستهجن وقال: انا من فتح. لست حمساويا لاصلي!!
عجبا!
قالت فيروز: ادعو عليهم ليل نهار، ليعذبهم الله بعذاب كبير، كما عذبوا شباب فلسطين المجاهدين.
وكانت تدعو على سلطة رام الله التي سجنت وعذبت المحسوبين على حركة حماس في الضفة الغربية وفاق تعذيبها السجون الاسرائيلية.
وقالت علياء، ام فلسطينية حنون: هل تعلمين انه في سجون الاحتلال، يحقن المرضى الفلسطينيين الاسرى بحقن مع مواد سامة تؤدي الى موتهم البطيء؟
وتقول رابعة، أرملة من قرية العيزرية (من ضواحي القدس): توفي زوجي بمرض السرطان. سجن في اسرائيل لمدة 13 عاما. وبعد ان خرج اصبح عنده سرطان في الكبد.
ونظرت الى صورته: كان رجلا ملتحيا ويبتسم بشيئ يدعو الناظر ليعيد اليه النظر.
قلت لها: ليبارك الله في ذريتك.
قالت بسخرية مريرة: وهل ابناء اليوم مثل آبائهم؟

حزينة انا في وطني، ومهاجرة مثل طائر سنونو.

قصة امرأتين


الكثير من الافكار والتساؤلات تجتاحني في هذه الايام، وعندما احتاج الى اخراجها الى حيز الكلام، تختنق فجأة وتؤثر النزول الى القاع. الكتابة عندي عبارة عن صراع بين الداخل والخارج، داخل نفسي وخارجها، داخل مجتمعي وخارجه، داخل حياتي وخارجها. ولذلك أجد نفسي في كثير من الأحيان أمهّد لنفسي بمقدمة، تكون بمثابة تمهيد للكتابة، تمهيد لي حتى استطيع اخراج تلك الافكار والشحنات الداخلية الى الخارج.

وها هي تخرج الآن...

ابتسام
اسمها ابتسام، صديقة عزيزة. لديها عائلة من زوج وثلاثة اطفال. أعيش معها في الفترة الأخيرة لحظات طويلة من التأمل في المجتمع وفي أنفسنا. جميل ان يجد المرء صديقا في هذا الزمان، صديقا يتبادل معه الأفكار والمشار بدون أدنى تحفظات. جميل أن يعيش المرء منا حياته وهو في رفقة من يحبهم، يربطه بهم ما يقربه الى حب الله عز وجل.

عرفت عن طريق ابتسام الكثير عن نفسي وعرفت عن طريقي الشيء الكثير عن نفسها. وفي غمرة الشوق للقاء يجمعنا، قالت لي: علينا ان نفكر كيف يمكن لنا ان نتحرر من الآخر، كفانا حديثا عن المحتل، ربما حان الوقت من أجل ان نتحدث عن واقعنا وان نسرده دون الحديث عن الآخر.


المعذبون في الارض.. اين قصتهم؟
ما يزعج ابتسام هو ان الفلسطينيين، كما اي شعب تحت الاحتلال، لا يفقد فقط ارضه بل ايضا هويته. "نعم فقدنا استقلال هويتنا" تؤكد ابتسام.

ولكن هل يمكن في معادلة غير متكافئة بين شعب يرزح تحت الاحتلال وبين شعب محتل ان يبدأ احدهما بالحديث عن هويته دون الآخر؟

وكنت في السنة الاخيرة قد طالعت بعض نظريات ما بعد الاستعمار، وهي نظريات على الاغلب تعالج اوضاع الشعوب والبلدان التي "تحررت" من الاستعمار التقليدي الذي ساد في القرون الماضية وخاصة القرن ال 18 و ال 19 ومنتصف ال 20 ومن خلاله قامت دول استعمارية مثل بريطانيا، فرنسا والولايات المتحدة وغيرها باحتلال شعوب اخرى والاستيلاء عن ثرواتها.

ونظريات ما بعد الاستعمار تحاول ان تتبع الدول التي "تحررت" من استعمار الدول الكبيرة وكيف انها اصبحت مستعبدة ولكن بطرق اخرى واهمها الثقافة.

ويشير سارتر في مقدمة كتاب "المعذبون في الارض" الى ان ما فعله الاستعمار كان خلق فئة من الشعب المحتل والتي تتبى افكار الدول الاستعمارية وتروّج لها بل وتصبح أداة في يدها تحركها كيفما تشاء. وبكلمات اخرى اذا نعقت بوم في الغرب وجدت الف بوم تنعق بنعيقها في الشرق. وهذا طبعا ما نجده، واريد ان اذكر بخاصة الافلام المصرية "التافهة" وهي كثيرة وهي عبارة عن نسخ لسيناريوهات افلام اجنبية. ولفت انتباهي فيلم يحكي قصة اربع نساء مصريات يحاولن التحرر من قيود المجتمع، ومن يا ترى هن؟ احداهن تعمل في شركة دعاية، واخرى مغنية، وواحدة كاتبة سطحية، اما الرابعة فقد نسيت دورها في الفيلم او حتى في الحياة نظرا لتفاهته، وكل ما يحاول الفيلم ابرازه هو "مقومات النساء"وهي لا تعدو الاستعراض. كما ان الافكار التي يعرضها الفيلم مستوردة عن مسلسل امريكي يعالج قضايا النساء الامريكيات من خلال اربع نسوة. ولكن شتان ما بين العرضين. ولا مانع برايي من التطرق الى القضايا التي تشغل النساء العربيات، بل هذا مطلوب وشرعي، ولكن ليس بطريقة تكرّس استغلال النساء من خلال عرض اجسادهن على المارة.


اريد ان أراني
وعودة الى ابتسام، نحتاج الى التحرر فعلا، ولكن ما هي الادوات التي يمكن لنا ان نستعملها من اجل الحديث عن انفسنا وبلغتنا ومصطلحاتنا؟ ما هو السبيل الى تهميش الآخر، ليس من مفهموم التجاهل، بل من مكان الثقة باننا قادرين على صياغة مستقبلنا، حاضرنا وماضينا بالطريق التي تعبّر فعلا عنا، وليس نسخا لمصطلحات ومفاهيم يريدنا الآخر ان نرى انفسنا من خلالها.
ولذلك اكتب. واعيد الكتابة. اريد ان تخرج كل الاوهام والترسبات التي اصنعها بنفسي ويصنعها الاخرون لي، لاني اريد ان ارى نفسي ولو لمرة واحدة في المرآة كما انا... كما أنا.

05‏/02‏/2009

اي عنوان تريد لهذه المرحلة؟

عندما اقول حسبي الله ونعم الوكيل ليس فقط للأسى على ما أرى بل لجمع القوى والنهوض.

البحر كان خلفي، والشارع ممتلئ بالسيارات، كانت ازمة سير، جلس مقابلي شيخ وعجوز اثيوبيان باللباس التقليدي، يتحدثون باللغة الامهارية، لم افهم شيئا. كما لم افهم شيئا مما تقوله النساء الروسيات في المقعد المجاور. نظرت حولي، كان الباص الذي يسير في شوارع حيفا يخبر الكثير عن المجتمع الذي اعيش فيه. اسرائيل مجتمع يخلط اعراقا من مهاجرين يهود اروروبا الشرقية، روسيا، امريكا وحتى افريقيا. وانا.. اين انا؟ واين شعبي؟

أين أنا واين شعبي؟
قفز هذا التساؤل الى ذهني في اللحظة التي انعطف الباص ليدخل البلدة القديمة في حيفا، وهناك رايت مسجدا ودورا من حجارة قديمة. قلت في نفسي: هذا انا وهذا شعبي.. اصبح شيئا من القديم. تاريخي قديم. واهلي اين هم الآن؟
مبعثرون هم في الشتات وحتى في الوطن. منقسمون، لا وحدة ولا وطنية. حزين انت يا مسجدي مثلما انا حين ارى القدم في حجارتك، ولا ارى استمرارا كافيا لك في الحاضر.
لا.. لا.. لست متشائمة. لا اقول ان اهلي ممن يعيشون في الوطن وخارجه فقدوا الانتماء، ولا الغي وجودهم. لا اقول انهم لا يشتاقون كما اشتاق.. ولا اقول انهم لا يريدون ان يعودوا وان يعيدوا الحق الى اصحابه كما اريد. ولكني ارى اننا نحب ونريد ونتمنى ونتأمل ولكن تقريبا لا نعمل الكثير، ولا حتى الحد الادنى من الذي يجب ان نفعله.

عودة الى التهجير
اغادر البلدة القديمة في حيفا ولكنها لا تغادرني. الكلام الكثير وباللغات المتعددة في الباص يعيدني الى الواقع الذي اعيش فيه. وفجأة تظهر صورته امامي: ليبرمان.. وشعاره الذي لا يفارق الشوارع العامة في الداخل وحتى في غور الاردن المحتلة عام 1967، يقول ليبرمان: لا ولاء.. لا مواطنة.
ليبرمان المستورد من روسيا الى هذه البلاد، لا يعرف ملحها ولا خبزها ولم يعمرها. بل جاء من البعيد من اجل الاستيطان على ارض ليست ارضه، يقول للسكان المحليين يقول للفلسطينيين اذا كنتم غير موالين لاسرائيل فلا مكان لكم هنا. بمنتهى الوقاحة التي تجاهر بالعنصرية يقول لنا: سنخرجكم من هذه الارض اذا لم تغلقوا افواهكم.
الحديث عن طرد العرب الفلسطينيين من فلسطين ليس جديدا، منذ سنوات الثلاثينات من القرن العشرين، اي قبل حوالي 90 سنة والترويج لهذه الفكرة قائم، حيث ينصب تفكير اليهود على تحويل فلسطين الى يهودية كلها، حتى وهم اقلية وكنا وقتها اغلبية كانوا يفكرون بطردنا من بلادنا. وجاءت حرب 1948 او جيء بها من اجل طرد اكبر عدد من الفلسطينيين من ارض الاسراء، وتم لهم هذا المر جزئيا، وفي عام 1967 طرد وهجر الفلسطينيون ايضا في الضفة الغربية وغزة. ولا بد ان كل ممارسات اسرائيل العسكرية والعنصرية من اجل طردنا من ارضنا.

بين الاعتراف وانكار الواقع
وفي نقاش حول هذا الطرد قالت احدى الصبايا: لا تكوني متشائمة، لن يستطيعوا طردنا، الاعلام مختلف عما كان ايام النكبة والنكسة، سنفضحهم. ونحن لن نسكت على الطرد والتهجير.
قلت لها وفي القلب مرارة: اذا كان الامر يتعلق بتوقعاتنا فنحن دائما نتوقع الاحسن ولا ننال الا الاسوأ. هل توقع اجدادنا وهم اغلبية وكانوا يعّلمون اليهود "المساكين" في نظرهم الزراعة وفنون التعامل مع الارض، ان هذه الاقلية الوافدة ستطردهم من ارضهم. هل توقعوا بان ضيفهم سيطردهم من بيتهم بعد ان آووه؟؟
وعندما كانت اسرائيل تروّج لاقامة سلطة بديلة عن الاحتلال عام 1967، قال الفلسطينيون: لن تنجح اسرائيل في تسويق الاحتلال بهذه الطريقة وان تجد بديلا فلسطينيا يقبل بان يكون شركة حراسة لاسرائيل ومطامع اسرائيل. وماذا حدث؟ عام 1994 وقعت اسرائيل اتفاقية لم تحلم بها لاقامة سلطة فلسطينية تمارس دور الشرطي لحماية مصالح اسرائيل.
وهناك مثال اخر عن الجدار الفصل العنصري الذي كان حزب العمل يريده قائما ليفصل بين الفلسطينيين واسرائيل، وكان هذا في السبعينات من القرن الماضي (يعني تقريبا قبل 40 سنة) هل توقع احدنا ان هذا الجدار سيقوم؟؟
وامر اخر عن الحرب الاهلية والانقسام بين الفلسطينيين، كان هذا الامر اشبه بالكابوس واستبعده كل من استبعده. من كان يصدق ان الفلسطينيين سيتراشقون الاتهامات والسكاكين في ازمة مثل الحرب على غزة؟ من كان يجرؤ حتى على ان يتخيل ان هناك من الفلسطينيين من سيسجن اخاه في سجن لا يعلم بظلامه الا الله، ليخرج منه شباب فقدوا ليس فقط ابدانهم بل ايضا عقولهم من جراء التعذيب؟ من كان يتصور ان في الطابور الصباحي لمدارس في الضفة العربية سيقف المدير المؤيد للسلطة ليهاجم المقاومة وليغرس في قلوب الاطفال الفلسطينيين الكراهية والحقد على كل فلسطيني اخر لا يحمل نفس الآراء والمواقف؟
انا لم احلم بهذا ابدا. لم اتخيل ان نصل الى هذه المرحلة ابدا. ولكننا وصلنا اليها ، لاننا لم نفتح اعيننا جيدا ونرى الواقع. كنا مغلفين بغشاوة من الامل واستبعاد الخطر.

واحة للعنصرية؟
ولنعد الى ليبرمان، الذي كان من المفروض ان يخرج من الانتخابات بل وان يقدم للمحاكمة في دولة تدّعي انها واحة الديموقراطية في الشرق الاوسط. لانه فعلا يشكل تهديدا ليس فقط على امن الفلسطينيين في البلاد بل وعلى اليهود انفسهم.
ولكن الخطير في الامر ان ليبرمان ليس فردا في اسرائيل، بل هو يمثّل الشارع الاسرائيلي العام، هل يمثّل رغبة اسرائيلية في "تطهير" البلاد من الفلسطينيين. خطاب ليبرمان يخدم الخطاب الذي تغنيه اسرائيل ليل نهار عن يهودية الدولة.
قال لي عاموس: ربما سنخرج نحن ايضا من اسرائيل. لاننا لا نتفق مع مواقف ليبرمان! وقالت شاي: كنت مهددة بالفصل من المدرسة التي ادرس فيها لاني طلبت من الطلاب ان يكتبوا ماذا يفكر اطفال غزة. وكان هذا وقت الحرب.
اما ايتان فقال: للاسف نحن نذهب الى هناك.. لننظر ماذا سيصير. ليبرمان كان في الحكومة السابقة ولم يفعل شيئا يعجز عنه اخرون من الاحزاب الصهيونية.
نحن نذهب الى هناك.. يعني المصيبة الكبيرة او الكارثة التي ستلحق بنا. من ناحية اليهود الذي يخالفون مواقف الدولة فانهم سوف يعاقبون ولكنهم لن يقتّلوا. نعم.. نحن في مواجهة التقتيل.. لا تستغربوا هذا ابدا.

قالت لي: هناك شيء في الجو، في الشعارات في الكلام، في كل شيء يشجع الشعور اليهودي العام بان قتل الفلسطينيين اصبح ضرورة.
نحن نتحدث عن ابادة وليس عن شعور بالابادة. القتل والدمار الذي حدث في غزة، دون ان يشعر اغلبية الاسرائيليين باي تأنيب للضمير، بل التشجيع من اجل قتل اكبر عدد من الفلسطينيين، وليس مهما لهم من هم. لانهم ببساطة في عيون اغلبية الاسرائيليين ليسوا بشرا مثلهم.
الصوت الفلسطيني في الجليل والمثلث كان اعلى الاصوات داخل المجتمع الاسرائيلي التي دعت الى وقف الحرب حالا. وكان الرد عسكريا باعتقال العشرات من الشبان، واعلاميا بالتحريض على "مواطني الدولة" الذين فقدوا ولاءهم واصبحوا "طابورا خامسا".
هذا هو الجو الذي يغذي حملة ليبرمان لطرد الفلسطينيين من بلادهم، بعد ان فشل في الانتخابات السابقة، قبل حوالي اربع سنوات، في ترسيخ شعاره: الاردن هي الدولة الفلسطينية.
واليوم لديه شعار عملي يتغذى من اجواء العنصرية والشعور الاسرائيلي العام بالانتصار على الفلسطينيين وهم يرون الدمار والقتل الذي الحقته الة الحرب العسكرية بالفلسطينيين.

ماذا ينتظرنا؟ وماذا نفعل؟
ينتظرنا مصير صعب جدا، نحن كشعب فعلا مهدد بالقتل على ارضه. ليس هذا الامر مستبعدا. هناك تهيئة للمجتمع الاسرائيلي لتقبل هذا الطرح، وهناك استعداد شعبي اسرائيلي بالمشاركة والسكوت عن هذه الجريمة. لا اتحدث عن جريمة مستقبلية في فيلم بوليسي، بل جريمة تحدث يوميا من مصادرة الاراضي، والتهديد بهدم المنازل، وسلب الحقوق المدنية، وكم الافواه، والتحريض الاعلامي، وقتل المدنيين برصاص الشرطة في المظاهرات وغيرها.
يقول طفل فلسطيني في الخامسة لأمه: اريد ان يكون لي مصنع اسلحة حتى احارب وادافع عن نفسي امام اليهود. تقول له امه: لا تخف، فنحن في امان ولا توجد حرب علينا. يجيبها: اماه، انهم يقتلون الاطفال في غزة. يجوعونهم ويهدمون منازلهم. تخاف الام وهي تنظر الى ابنها، وتحاول ان لا يفكر بهذه الطريقة. تفكر وتقول: اريدك ان تتعلم وان تساهم في بناء مجتمعك. وان تبني مصنعا من اجل ان يعمل فيه ابناء شعبك ليعيشوا بكرامة.

لنعزز ثقافة الصمود
يبقى علينا ان نعترف بوجود هذا الواقع. والا نتعامى عنه او نحاول ان نتجاهله. ربما نحن لن نستطيع ايقافهم. ولكننا نستطيع ان نقوي انفسنا. وان ندعم الضعاف فينا وان نتغلب على نقاط الخلاف. بكلمة واحدة علينا ان نوحد جهودنا من اجل درء هذا الخطر.

والذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا: انا لله وانا اليه راجعون، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. لنتقرب من الله عز وجل بالطاعات ولنصبر على البلاء. وايضا لنأخذ بالاسباب التي تقوينا ومنها: تعزيز الحوار بيننا، وتعزيز الاعلام ونشر المعلومات ليس فقط لدى وسائل الاعلام الرسمية بل ايضا لدى الافراد في كل المجتمعات التي يمكن الوصول اليها. لنعزز ثقافة الصمود، الصبر والبقاء فينا، لندعمها بالامثلة الحية والواقعية لمجتمع يعيش تحت الاحتلال ويبقى على ارضه.

ربما لن يكون لدينا سلاحا فتاكا مثل الذي بين ايديهم، فالتكن اذا ارادة لا تهزم بالبقاء معنا.